المناهج الدراسية مناهج معهد تعليم اللغة العربية

المستوى الرابع

 

صور من حياة الصحابة

رملة بنت ابي سفيان

زيد بن ثابت

عبد الله بن سلام

عتبة بن غزوان

عمير بن سعد

معاذ بن جبل

top رمله بنت أبي سفيان

رَمْلة بنت أبي سفيان

 

 

" أم حبيبة آثرت الله ورسوله على ما سواهما، وكرهت أن تعود

للكفر كما يكره المرء أن يُقذف في النار"

[ المؤرّخون ]

 

ما كان يَخْطُرُ بِبالِ أبي سُفْيَانَ بنِ حربٍ أنَّ في وُسْع أحدٍ من قريشٍ أنْ يخرُجَ على سُلْطانِه(1)، أو يخالفَه في أمر ذي بال(2). فهو سَيِّدُ مكةَ المُطاعُ، وزعيمُها الذي تَدينُ له بالولاءِ(3).

لكنَّ ابنَتَه رَمْلَةَ المكناةَ بأمِّ حبيبةَ، قد بَدَدَتْ(4) هذا الزَّعْمَ. وذَلك حين كَفَرَتْ بآلهة أبيها، وآمنتْ هي وزوجُها عبيدُ اللّهِ بنُ جحش باللّهِ وحدَه لا شَريكَ له، وصدَّقَتْ بِرِسالَةِ نبيِّه محمدِ بنِ عبدِ اللّهِ.

وقد حاوَلَ أبو سفيانَ بكـلِّ ما أوتي مِنْ سَطْوَةٍ وبَأس(5)، أن يَرُدَّ ابنتَـه وزوْجَها إلى دينهِ ودينِ آبائهِ، فلم يُفْلِحْ، لأنَّ الإيمانَ الذي رَسَخَ في قلبِ رَمْلَةَ كانَ أعمقَ من أنْ تَقْتَلِعَه أعَاصيرُ(6) أبى سفيانَ، وأثْبَتَ من أنْ يُزَعْزِعَه غَضبُه.

***

ركب أبا سفيانَ الهمُّ بسبب إسلامِ رملةَ؟ فما كان يعرفُ بأيِّ وجهٍ يقابلُ قريشاً، بعد أنْ عَجَزَ عن إخضاعِ ابنتهِ لمشيئَتِه، والحيلولةِ دونَها ودونَ اتِّباع محمد.

***

ولمَّا وَجَدَت قريشا أنَّ أبا سفيانَ ساخِطٌ على رَمْلَةَ وزوجها اجترأتْ عليهما، وطَفِقَتْ تُضَيِّقُ عليهما الخِنَاقَ، وجعلت تُرْهِقُهُما(7) أشَدَّ الإرْهاقِ، حتى باتا لا يُطيقانِ الحياةَ في مكةَ.

ولما أذِنَ الرسولُ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه للمسلمين بالِهجْرَةِ إلى الحبشةِ، كانت رَمْلَةُ بنتُ أبي سُفيانَ وطِفْلَتُها الصغيرةُ حبيبةُ، وزوجُها عبيدُ اللّهِ بنُ جحش، في طليعةِ المهاجرينَ إلى اللّهِ بدينهم، الفارِّين إلى حمى النَّجاشيِّ(8) بإيمانهم.

***

لكنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ ومن مَعه من زعماءِ قُريشٍ، عَزَّ(9) عليهم أن يفْلِتَ من أيديهم أولئكَ النفرُ من المسلمين، وأن يذوقوا طَعْمَ الراحَةِ في بلادِ الحَبَشَةِ.

فأرسلوا رسلهم إلى النجاشي يحرضونه(10) عليهم. ويطلبونَ منه أن يُسْلِمَهم إليهم، ويَذْكرونَ له أنَهُمْ يقولون في المسيح وأمِّه مريمَ قولاً يسوؤه(11).

فبعثَ النجاشىُّ إلى زعماءِ المُهاجرين، وسألهم عن حقيقةِ دينهم وعَمَّا يقولونه في عيسى ابنِ مريمَ وأمِّه، وطلب إليهم أنْ يُسْمِعُوه شيئاً من القرَانِ الذي يَنْزِلُ على قلبِ نبيِّهم.

فلما أخبروه بحقيقةِ الإسلامِ، وتَلَوْا عليه بعضاً من آياتِ القرَانِ، بَكَى حتى اخْضَلَّتْ(12) لِحْيَتُه وقال لهم:

إن هذا الذي انْزِلَ على نَبِيِّكُمْ محمدٍ ، والذي جاء به عيسى ابنُ مريمَ يخرجان من مِشْكاةٍ(13) واحِدَةٍ.

ثم أعلنَ إيمَانَه باللّهِ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وتصديقه لِنُبُوَّةِ محمدٍ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه...

كما أعلن حِمايَتَه لمن هاجر إلى أرضِـه من المسـلمين على الرَّغْمِ من أنَّ بطارِقَتَه(14) أبوا أنْ يُسْلِموا، وظلُّوا على نَصْرانِيَّتِهم.

***

حَسبتْ (15 )أم حبيبة بعد ذلك أنَّ الأيامَ صَفَتْ لها بعدَ طول عُبُوس، وأن رِحْلَتَهَا الشَّاقَّةَ في طريق الآلام قد أفْضتْ(16) بها إلى راحةِ الأمان...

إذْ لم تكن تَعْلَمُ ما خَبَّأتْهُ لها ا لمقادير...

***

فلقد شاءَ اللّهُ تَبَارَكَتْ حِكْمَتُه، أن يَمْتَحِنَ أمَّ حبيبةَ امتحاناً قاسياً تَطشُ(17) فيه عقولُ الرجالِ ذَوي الأحلامِ(18) وتَتَضَعْضَعُ أمامَه أفهام ذوي الأفهامِ.

وأن يَخْرِجُهَا من ذلك الابتلاء الكبير ظافِرَةً تَتَرَبَّعُ(19) على قِمة النجاح...

***

ففي ذاتِ ليلةٍ أوَتْ أمُّ حبيبةَ إلى مَضْجَعِها، فَرَأتْ فيما يراه النائِمُ أنَّ زوجَها عُبَيْدَ اللّهِ بنَ جحش يَتَخَبَّطُ فِي بحرٍ لُجِّيٍّ(20) غَشِيَتْهُ(21) ظُلُماتٌ بعضُها فوفَ بَعْض، وهُوَ بأسْوَءِ حال...

فهبَّتْ من نومها مَذْعورةً(22) مضطَرِبَةً...

ولم تشأ أنْ تَذْكُرَ له أو لأحدٍ غَيْرِه شيئاً مِمَّا رأت...

لكنَّ رُؤياها ما لَبِثَتْ أن تَحَقَّقتْ، إذ لم يَنْقَضِ يومُ تلك اللَّيْلَةِ المشؤومَةِ(23) حتى كان عبيدُ اللّه بنُ جحشٍ، قد ارتَدَّ عن دينه وتَنَصرَ...

ثم أكَبَّ على حاناتِ(24) الخمَّارينَ يعاقِر(25) أمَّ الخبائثِ(26) فلا يَرْتَوِي منها ولا يَشْبَعُ.

وقد خَيَّرَهَا بَيْنَ أمرين أحْلاهُما مُرّ:

فإما أن تُطَلَّقَ...

وإمَّا أنْ تَتَنَصَّر...

***

وَجَدَتْ أمُّ حبيبةَ نفسَها فجأةً بين ثلاثٍ :

فإمَّا أنْ تَسْتَجيبَ لِزَوْجِها الذي جَعَلَ يُلحُّ في دَعْوَاها إلى التَنّصَّرِ، وبذلكَ تَرْتَدُّ عن دينها- والعياذُ باللّه- وتبوءُ بِخْزِيِ(27) الدنيا وعذابِ الآخرة.

وهو أمر لا تَفْعَلُهُ ولو مُشِطَ لحمُها عن عَظْمِها بأمْشَاطٍ من حديد...

وإما أنْ تعودَ إلى بَيْتِ أبيها في مكةَ، وهو مازال قَلْعَةً للشرْكِ؟ فتعيشَ فيه مَقْهورَةً مغلوبَةً على دينها...

وإما أنْ تَبْقَى في بلادِ الحبشةِ وحيدةً، شريدةً، لا أهلَ لها ولا وطَنَ ولامعينَ.

فآثرت(28) ما فيه رضى اللّهِ عزَّ وجَلَّ على ما سِواه...

وأزْمَعَتْ(29) على البقاءِ في الحبشةٍ حتى يأتيَ اللّهُ بِفَرَج من عنده.

***

لم يَطُلِ انتظارُ أمِّ حبيبةَ كثيراً.

فما إن انْقَضَتْ عِدَّتُها(30) من زَوْجِها الذي لم يَعِش بعد تَنَصُّرِه إلا قليلاً حتى أتاها الفَرَج...

لقد جاءها السَّعْدُ يُرَفْرِفُ بأجْنِحَتِهِ الزُّمُرُّدِيَّةِ(31) الخُضرِ فوقَ بَيْتها المحزونِ على غير ميعاد...

ففي ذاتِ ضُحىً مُفَضَّضِ(32) السَّنا طَلْقِ المُحيَّا طُرِقَ عليها البابُ؛ فلما فَتَحَتْه فوجِئَتْ"بأبْرَهَةَ " وصيفةِ(33) النجاشيِّ ملكِ الحبشةِ.

فحمتها بأدًبٍ وبِشْرٍ ، واسْتَأذَنَتْ بالدخولِ عليها وقالت:

إن الملكَ يُحيِّيكِ ويقولُ لك: إنَّ محمداً رسولَ اللّهِ قد خَطًبكِ لِنَفْسِه...

وإنَّه بعثَ إليه كتاباً وكَّلَه فيه بأنْ يَعْقِدَ له عليك ... فَوَكِّلِي عَنْكِ من تَشائين.

***

استطارَتْ(34) أم حبيبة فرحاً، وهَتفت: بَشَّرَكِ اللّهُ بالخيرِ... بَشَرَكِ اللّهُ بالخيرِ...

وطَفِقَتْ تَخْـلَعُ ما عليهـا من الحـلِىِّ فَنَزَعَتْ سِـوارَيْهَا، وأعْطَتْهُما لأبرَهَةَ...

ثم ألْحَقَتْهما بِخَلْخالِها(35) ... ثم أتبَعَتْ ذلك بِقُرْطَيْها(36) وخَواتيمِها...

ولو كانت تملِكُ كنوزَ الدنْيا كلَّها لأعْطَتْها لها في تلك اللَّحْظَة.

ثم قالت لها : لقد وكلتُ عَنِّي خالدَ بنَ سعيدِ بنِ العَاصِ؛ فهو أقربُ النَّاسِ إليَّ.

***

وفي قَصْرِ النجاشيِّ الرابِضِ على رابيةٍ شَجْرَاءَ(37) مُطِلَّةٍ على روضةٍ من رياضِ الحَبَشَةِ النَّضِرَةِ.

وفي أحَدِ أبهائِه(38) الفسيحةِ الُمزْدانَةِ بالنقوش الزاهيةِ، المُضاءةِ بالسُرج(39) النُّحَـاسِيَّةِ الوضاءَةِ، المفروشَةِ بِفاخِر الرِّياش اجتمع وجوهُ الصَّحابَةِ المقيمون في الحَبَشَةِ، وعلى رأسِهِمْ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ ، وخالدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ، وعبدُ اللّهِ بنُ حُذَافَةَ السهمىُّ، وغيرُهم لِيَشْهَدوا عَقْدَ أمِّ حبيبـةَ بنتِ أبى سُفيانَ على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  .

فلما اكْتَمَلَ الجمعُ، تَصَدَّرَ النجاشيُّ المَجْلِسَ وخَطهم فقال:

أحْمَدُ اللّهَ القُدُّوسَ المُؤمِنَ الجبَّارَ(40) وأشْهَدُ أنْ لا إله إلا اللّه وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وأنّه هو الذي بَشَّرَ به عيسى ابن مريم.

أما بعد : فإنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  طَلَبَ مِنِّى أنْ أزوِّجَهُ أمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سُفْيانَ؟ فَأجَبْتُه إلى ما طلبَ، وأمْهَرْتُها نيابَةً عنه أربعَ ماِئةِ دينارٍ ذهباً…

على سنة الله ورسوله ...

ثم سَكَبَ الدنانيرَ بين يَدَيْ خَالِدِ بنِ سعيدِ بنِ العاص.

وهنا قام خالِدٌ فقال : الحمدُ للّه أحْمَدُه وأسْتَعينُه، وأسْتَغْفِرُهُ، وأتوبُ إليه، وأشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أرْسَلَه بدينِ الهُدَى والحقِّ لِيُظْهِرَه(41) على الدينِ كُلِّه ولو كَرِهَ الكافِرون.

أما بعدُ : فقد أجَبْتُ طَلَبَ رسولِ اللّهِ عليها، وزوَّجْتُه مُوكِّلَتي أمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيانِ.

فبَارَكَ اللّهُ لرسولِه بزوجَتِه.

وهنيئاً لأمِّ حبيبةَ بما كتب اللّهُ لها من الخير...

ثم حَمَلَ المالَ وهَم أنْ يمضيَ به إليها، فقام أصحابُه لِقِيامِه وهَمُّوا بالانصرافِ أيضاً.

فقال لهم النجاشي : اجْلِسُوا فإنَّ سُنَّةَ الأنبياءِ إذا تَزَوَّجوا أن يُطْعِمُوا طعاماً.

ودعا لهم بطعام فأكلَ القومُ ثم انفَضُّوا.(42)

***

قالت أمُّ حبيبة: فلما وَصَلَ المالُ إليَّ أرْسَلْتُ إلى " أبرَهَةَ " التي بَشَّرَتْنِي خمسين مِثْقالاً(43) من الذَّهبِ وقلتُ:

إني كنتُ أعطيتكِ ما أعطتُ حينَ بَشَّرْتِني ولم يَكنْ عِنْدي يَوْمَئِذٍ مال ...

فما هُوَ إلا قليلٌ حتى جاءَتْ أبرَهَةُ إليَّ ورَدَّتِ الذَّهَبَ، وأخْرَجَتْ حُقا(44) فيه الحُلُّي الذي كنتُ أعطتها إياه، فَرَدَّتْهُ إليَّ أيضاً وقالت:

إنَّ الملكَ قد عَزَمَ عَلَيَّ ألا آخذَ منكِ شيئاً.

وقد أمَرَ نساءَه أن يَبْعَثْن لَكِ بِكُلِّ ما عِنْدَهُنَّ من الطّبِ.

فلمَّا كان الغَدُ جاءتني بِوَرْسٍ(45)، وعودٍ(46)، وعَنْبَر، ثم قالت لي:

إن لي عندكِ حاجَةً...

فقلت: ومَا هي؟!

فقالت:

لقد أسْلَمْتُ، واتبعتُ دينَ محمدٍ فاقْرَئي عَلَى النبيِّ مِنِّي السلامَ وأعلمِيه أني آمنتُ باللّهِ ورسولِه ولا تَنْسَي ذلك.

ثم جَهَّزَتْنِي.(47)

***

ثم إنِّي حُمِلْتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم  .

فلما لقيتُه، أخْبَرْتُه بما كان من أمر الخِطْبةِ، وما فَعَلْتُه مع " أبرَهَةَ " وأقْرَأته مِنها السلامَ .

فَسُرَّ بِخَبَرِها وقال: وعليها السلامُ ورحمةُ اللّهِ وبَرَكَاتُه(*).

 

 

(*) للاستزادة من أخبار رملة بنت أبى سفيان انظر:

1- ا لإصابة: 4/ 441.

2- الاستيعاب: 30314.

3- أسد الغابة: 45715.

4- صفة الصفوة: 2212.

5- المعارف لابن قتيبة: 136- 3440.

6- سير أعلام النبلاء.

7- مرآة الجنان لليافعى.

8- السيرة النبوية لابن هشام (انظر الفهارس).

9- تاريخ الطبري (انظر الفهارس في العاشر).

10- طبقات ابن سعد (انظر الفهارس في الثامن).

11- تهذيب التهذيب لابن حجر.

12- حياة الصحابة (انظر الفهارس).

13- أعلام النساء لكحالة: 464/1.

 

 


(1) يخرج على سلطانه: يخالف أمره.

(2) أمر ذو بال: أمْر ذو أهمية وشأن.

(3) الولاء: الطاعةُ والمتابعة.

(4) بَدَّدَتْ هذا الزعم: أبطلت هذا الزعم ومَزَّقته.

(5) ا لبأسُ: ا لقوَّة.

(6) أعاصير: جمع إعصار، وهو رج شديدة ترتفع بتراب الأرض ومياه المجر.

(7) ترهقهما: تُتْعِبُهما وتُعَنِّيهما.

(8) النجاشي: ملك الحبشة، وقد جمع القرآن وآمن بالله ورسوله وآوى المسلمين.

(9) عَزَّ عليهم: صَعُبَ عليهم.

(10) يحرِّضونه عليهم: يثيرونه عليهم.

(11) يسوؤه: يؤذيه ويزنه.

(12) اخضلت لحيته: تبللت لحيته.

(13) المشكاة: ما يوضع عليه المصباح (أي من مصْدر نورٍ واحدٍ ).

(14) البطارقة: جع بطريق وهو القائد.

(15) حسبت أم حبيبة: ظنَّت.

(16) أفضت بها: انتهت بها وأوصلتها.

(17) تطيش: تتوه وتضلُّ.

(18) ذوو الأحلام: أصحاب العقول.

(19) تتربع: تجلس.

(20) بحر لُجي: بحرٌ ذو لجج متلاطمة.

(21) غشيته ظُلُماتٌ : غَطَّتْه ظلماتٌ وأطبقت عليه.

(22) هَبَّت مذعورة: نَهَضَتْ خائفة.

(23) الليلة المشؤومة: الليلة التعيسة.

(24) حانات الخمارين: دكاكين الخمَّارين.

(25) يعاقِرُ الخمر: يلازمها ويُدْمِنُ عليها.

(26) أم الخبائث: كناية عن الخمر، ودعيت بذلك لأنها أصل كل شَرّ.

(27) تبوء بخزي الدنيا: ترجعُ بعار الدنيا.

(28) آثرت: فضَّلت واختارت.

(29) أزْمَعَت: عَزَت وقرَّرت.

(30) العِدة: المُدَّة المشروعة التي تقضها المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.

(31) الزمردية: نسبة إلى الزمرُّد، وهو حجر كريم أخفر اللون.

(32) مفضض الأنا: سناه فضي اللون، والسنا: الضوء.

(33) وصيفةَ النجاشى: خادمته الخاصة.

(34) استطارت فرحاً: كادت تطر من شدة الفرح.

(35) الخلخال: ضربٌ من الحلي تضعه المرأة في رجلها.

(36) القرط: الحلق.

(37) رابية شجراء: رابية ذات شجر.

(38) الأبهاء: جمع بهو، وهو القاعة الواسعة.

(39) السُّرج: جمع سراج، وهو المصباح الذي يضاء بالزَّيت ونحوه.

(40) القدوس، المؤمن، الجبار: من أسماء اللّه الحسنى.

(41) ليظهره: ليجعله غالباً قوياً ظاهراً.

(42) انفضوا: تفرَّقوا.

(43) المثقال: ما يوزن به الذهب ونحوه.

(44) الحُقُّ: بفم الحاء وعاء الطيب.

(45) الورس: نبات أصفرُ يُتَّخَذُ منه الزعفران.

(46) العود: ضربٌ من الطب بُتَبخَّرُ به.

(47) جَهّزتني: أعدَّت لي جهازي.

top زيد بن ثابت

زَيْد بن ثابت

" فمن للقوافي بعد حسان وابنِه        

ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت"

[ حسّان بن ثابت ]

 

نحن في السنةِ الثانيةِ للهِجْرَةِ.

ومدينةُ رسولِ اللّه صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه يموجُ بعضُها يَوْمَئِذٍ في بعض(1) استعداداً لبدر.

والنبيُّ الكريمُ يُلْقي النظراتِ الأخيرةَ على أوَّلِ جيش يَتَحَرَّكُ تَحْتَ قيادَتِه للجهادِ في سبيلِ اللّه وتَثْبيتِ كلمتِه في الأرضِ.

وهنا أقبلَ على الصفوفِ غلامٌ صغيرٌ لم يتمَّ الثالثَةَ عشْرَةَ من عمره، يَتَوَهجُ ذكاءً وفطنةً...

ويتألق نجابةً (2) وحَميةَ...

وفي يدِه سيفٌ يسـاويه في الطول أو يزيدُ عنه قليلاً، ودنا من رسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه وقال:

جُعِلتُ فداكَ يا رسولَ اللّه، ائذَنْ لي أنْ أكونَ مَعَكَ وأجاهِدَ أعداءَ اللّهِ تحتَ رايتكَ.

فنظرَ إليه الرسولُ الكريم نظرةَ سرورٍ وإعجاب، ورَبَّتَ(3) على كتفه بِرِفْق وودّ، وطيَّبَ خاطِرَه، وصَرَفَه لصِغرِ سِنِّه.

***

عادَ الغلامُ الصَّغيرُ يُجَرْجِرُ سيفَه على الأرضِ أسوانَ(4) حزيناً، لأنه حُرِمَ من شَرف صًحْبَةِ رسولِ اللّه في أولِ غزوةٍ يغزوها.

وعادَت من ورائِه أمُّه النَّوارُ بنتُ مالكٍ وهى لا تقِلُّ عنه أسىً وحزناً.

فقد كانت تتمنَّى أن تكْتَحِلَ عيناها برؤيةِ غلامِها، وهو يَمْضى معَ الرِّجالِ مجاهداً تحتَ رايةِ رسولِ اللّهِ.

وكانت تَأمُلُ في أن يَحْتَلَّ المكانَةَ التي كان من المُنْتَظَرِ أنْ يَحظى بها أبوه لدى الرسولِ لو أنه ظلَّ على قيدِ الحياة.

***

لكنَّ الغلامَ الأنصارِيّ حين وجد أنَه قد أخفق(5) في أنْ يَحْظَى بالتَّقَرُّبِ إلى رسولِ اللّهِ في هذا المجالِ لِصغرِ سِنِّه، تَفَتَّقَتْ فِطْنَتُه عن مجال آخَرَ- لا علاقَةَ له بالسن- يُقَرِّبُه من النبيِّ صلواتُ اللّهِ عليه ويُدنْيه إليه.

ذلك المجالُ هو مجالُ العلمِ والحِفْظ...

فَذَكَرَ الغُلامُ الفِكْرَةَ لأمِّه فهَشتْ لها وبَشّتْ(6) ونَشِطَتْ لِتَحقيقِها.

***

حَدَّثَتِ النوارُ رجالاً من قومِهم برَغْبَةِ الغلام؛ وذَكَرَتْ لَهُم فِكْرَتَهُ…

فَمَضَوْا به إلى رسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه وقالوا:

يا نَبِيَّ اللّهِ، هذا ابْنُنَا زيدُ بنُ ثابتٍ يَحْفَظُ سبعَ عشرةَ سورةً من كتابِ اللّهِ، ويَتْلوها صحيحةً؟ كما نزِلَتْ على قلبك.

وهو فوقَ ذلك حاذِق يجيدُ الكِتابَةَ والقراءةَ. وهو يريدُ أنْ يَتَقَرَّبَ بذلك إليك وأنْ يَلْزَمَكَ. فاسمع منه إذا شِئْتَ.

***

سَمِعَ الرسولُ الكريمُ من الغلام زيدِ بنِ ثابتٍ بعضاً مما يَحْفَظُ، فإذا هو مُشْرِق(7) الأداءِ، مُبينُ(8) النُّطقِ...

تَتَلألأ كلماتُ القرَانِ على شفتيه كما تَتَلألأ الكواكبُ على صَفَحَةِ السماء...

ثم إن تلاوتَهُ تَنُمّ على تَأثرٍ بما يتلو...

وَوَقَفاتُه تَدُلُّ على وَعْي لما يقرأ وحُسْن فهم...

فسُرَّ به الرسولُ الكريمُ إذْ وَجَدَه فوقَ ما وصفوه، وزادَه سروراً به إتقانُه لِلكتابة.

فالتَفَتَ إليه النبيُّ الكريمُ وقال: يا زيدُ، تَعَلَّمْ لي كتَابَةَ اليهودِ(9)، فإني لا آمَنُهم على ما أقول.

فقال: لبيكَ(10) يا رسولَ اللّهِ.

واكبَّ (11) من تَوِّه،(12) على العِبرِيَّة حتى حَذَقَها(13) في وقتٍ يَسـير، وجعل يَكْتُبُها لرسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه، إذا أراد أن يكتبَ لليهودِ، ويقرؤها له إذا هُمْ كتبوا إليه.

ثم تَعَلَّمَ السُّرْيانِيَّة(14) بأمرٍ منه- عليه الصلاةُ والسلامُ-كما تعلم العبرية.

فأصبح الفَتَى زيدُ بنُ ثابتٍ تَرْجُمانَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  .

***

ولما استوثق(15) النبيُّ صلواتُ اللّهِ عليه من رصانةِ زيدٍ وأمانتِهِ، ودِقَّتِهِ وفهمِهِ، ائتمَنَهُ على رسالةِ السماء إلى الأرض، فجعله كاتباً لِوَحْيِ اللّه...

فكـان إذا نَزَلَ شيء من القرآنِ على قلبهِ، بَعَثَ إليه يدعوه وقال: اكتب يا زيدُ، فيكتبُ.

فإذا بِزَيْدِ بنِ ثابتٍ يَتَلَقَّى القرَآنَ عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، آناً(16) فآناً فينمو مع آياته...

ويأخذهُ رَطْباً طرِيّاً من فمِهِ مَوْصولاً بأسْباب نُزولِه، فَتُشْرِق في نفسُه بأنوارِ هِدَايتهِ...

ويستنيرُ عَقْلُهُ بِأسْرَارِ شريعَتِهِ...

وإذا بالفتى المحظوظِ يَتَخَصَّصُ بالقرَان، ويغدو المَرْجِعَ الأوَّلَ فيه لأمَّةِ محمدٍ بعد وفاةِ الرسولِ صلواتُ اللّه وسلامه عليه.

فكان رَأسَ من جمعوا كتابَ اللّهِ في عَهْدِ الصِّدِّيقِ.

وطليعةَ من وجَّدُوا مَصَاحِفَهُ في زَمَن عثمان.

أفَبَعْدَ هذه المنزِلَةِ منزلة تسمو إليها الهمَمُ؟!

وهَلْ فوقَ هذا المَجْدِ مجدٌ تَطْمَحُ إليه النفوسُ؟!

***

وقد كان من فضلِ القرَانِ على زيدِ بن ثابتٍ أن أنارَ له سُبُلَ الصَّوابِ في المواقف التي يَحَارُ فيها أولو الألْبَاب(17) ففي يوم السَّقيفَةِ(18) اخْتَلَفَ المسلمونَ فيمن يَخْلُفُ رسولَ اللّهِ صلوات اللّه عليه:

فقال المهاجرون:

فينا خِلافَةُ رسولِ اللّهِ ونحنُ بها أوْلَى.

وقال بعضُ الأنصار: بل تكونُ الخلافةُ فينا ونحنُ بها أجدرُ.

وقال بعضهم الآخرُ:

بل تكونُ الخِلافَةُ فينا وفيكم معاً...

فقد كان رسولُ اللّه صلواتُ اللّه عليه وسلامُه إذا اسْتَعْمَلَ واحداً مِنْكُمْ على عَمَل قَرَنَ معه(19) واحداً منا.

وكادت تَحْدُثُ الفِتْنَةُ الكُبْرَى، ونبيُّ اللّهِ ما زالَ مُسَجّىً بين ظهرانيهم(20) لم يُدْفَنْ بَعْدُ.

وكان لابُدَّ من كلمةٍ حاسِمَةٍ حازِمَةٍ رَشيدةٍ مُشرِقَةٍ بِهَدْيِ القرَانِ تَئِدُ الفتنةَ في مَهْدِها(21)، وتنيرُ للحائرين الطريقَ.

فانطلقت هذه الكلمةُ من فَم زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ.

إذ التفتَ إلى قَوْمِه وقال: يا معشَرَ الأنصار: إنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  كان من المهاجرين، فيكونُ خليفتُه مهاجِراً مثلَه.

وإنَّا كنا أنصارَ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، فنكونُ أنصاراً لخليفتهِ من بعدِه وأعواناً له على الحَقَ.

ثم بَسَطَ(22) يَدَه إلى أبي بكر الصدِّيق وقال: هذا خليفتُكُم فبايِعوه.

***

وقد غدا زيدُ بنُ ثابتٍ بفضـلِ القرآنِ وتفقُّهِهِ فيه وطولِ ملازَمَتِهِ لرسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  منارَةً(23) للمسلمين: يستشيره خلفاؤهم في المُعْضِلاتِ(24)، ويَسْتَفْتِيهِ عامَّتُهم في المشْكِلات، ويرجعون إليه في المواريث خاصَّة، إذْ لم يكن بينَ المسلمين – إذْ ذاك- من هو أعلمُ منه بأحكامها وأحْذَقُ منه في قِسْمَتِها؛ فقد خَطَبَ عمرُ رضوانً اللّهِ عليه في المسلمينَ يومَ الجابيةِ(25) فقال:

أيها الناس، من أراد أن يَسْألَ عن القرآنِ فَلْيَأتِ زيدَ بنَ ثابتٍ ...

ومن أراد أن يَسْألَ عن الفِقْهِ فَلْيَأتِ معاذَ بنَ جبل.

ومن أراد أن يسأل عن المالِ فليأتِ إليَّ، فإنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ جَعَلني عليه والياً، وله قاسِماً...

***

ولقد عَرَفَ طلابُ العِلْم من الصحـابَةِ والتابعين لِزيْدِ بنِ ثابتٍ قَدْرَه، فاجَلُّوه، وعَظَّمُوه لما وَقَرَ(26) في صَدْرِه من العلم.

فها هو بَحْرُ العِلْمِ عبدُ اللّه بنُ عَبَّاس(27) يَرَى زيدَ بنَ ثابتٍ قد هَمَّ بركوب دابَّتِهِ، فَيَقِفُ بينَ يديه، ويُمْسِكُ له بركابِهِ، ويأخذ بزِمامِ دابَّتِهِ.

فقال له زيدُ بنُ ثَابت: دَعْ عنك يا ابنَ عَمِّ رسولِ اللّهِ.

فقال ابنُ عَبَّاس: هكذا أمِرْنا أن نَفْعَلَ بعلمائِنا...

فقال له زيد: أرني يَدَك.

فأخرج ابنُ عباس يَدَه له، فمال عليها زيدٌ وقَبَّلها وقال:

هكذا أمِرْنا أن نَفْعَلَ بآل بَيْتِ نَبيِّنا...

***

ولَمَّا لحق زيدُ بنُ ثابتٍ بجوارِ رِّبهِ؛ بكَى المسلمون بمَوْتِه العِلْمَ الذي وُورِيَ معه(28)، فقال أبو هريرة:

اليومَ ماتَ حَبْرُ(29) هذه الأمَّةِ، وعسى أنْ يجعلَ اللّهُ في ابنِ عباس خَلَفَاً منه.

ورثاه شاعِرُ رسولِ اللّهِ حسانُ بنُ ثابتٍ وَرَثى نَفْسَهُ معه فقال:

فَمَنْ لِلقَوافي بَعْدَ حَسَّانَ وابنِهِ         ومَنْ للمعاني بَعْدَ زيدِ بنِ ثابتِ؟! (*)

***

 
 

(*) للاستزادة من أخبار زيد بن ثابت انظر:

ا- الإصابة: الترجمة 2880.

2- الاستيعاب بهامش الإصابة: 1/ 551.

3- غاية النهاية: 1/ 296.

4- صفة الصفوة: 1/249 طبعة الهند.

5- أسد الغابة: الترجمة 1824.

6- تهذيب التهذيب: 3/399.

7- تقريب التهذيب: 1/272.

8- الطبقات لابن سعد: انظر الفهارس.

9- المعارف: 260.

10- حياة الصحابة: انظر الفهارس.

11- السيرة لابن هشام: انظر الفهارس.

12- تاريخ الطبري: انظر الفهارس.

13- أخبار القضاة لوكيع: 1/107-110

 

 


(1) يموج بعضها في بعض: يزدحم فيها الناس.

(2) نجابة: ذكاءً وفِطْنَة.

(3) ربتَ على كتفه: ضرب يجده عل كتفه بلين.

(4) أسوان: شديد الأسى والحزن.

(5) أخفق: لم ينجح.

(6) هشت وبشت: سرّت وفَرِحَت.

(7) مشْرِق الأداء: بديع الإلقاءِ وَضاء التلاوة.

(8) مبين النطق: فصيح النطق.

(9) كتابة اليهود: المبرية.

(10) لبيك: سمعاً وطاعة وإجابة لأمرك.

(11) أكب على العبرية: عكف على تعلم العبرية.

(12) من توه: فوراً.

(13) حذقها: أتقنها.

(14) السريانية: إحدى اللغات السامية وكانت منتشرة ببن طوائف من الناس.

(15) استوثق: تأكَّد واطمأن.

(16) آناً فآناً: شيئاً فشيئاً ووقتاً بعد وقت.

(17) أولو الألباب: أصحاب العقول.

(18) السقيفة: هي سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع المسلمون بعد وفاة الرسول ليتفاوضوا في شأن الخلافة.

(19) قرن معه: جَمعَ معه وضع إليه.

(20) مسجى بين ظهرانيهم: مُغطىَ لم يُدْفنْ بَعْدً.

(21) تئَدُِ الفتنة في مهدها: تدفنها وهي مازالت صغيرة.

(22) بَسَط يده: مَدَ يده.

(23) منارة: مرشداً للمسلمين وهادياً لهم.

(24) المعضلات: الأمور الى يصعب حلَّها.

(25) الجابية: قرية غربي دمشق اجتمع فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع الصحابة للتداول في شؤون الفتح وخطب فيها خطبته المشهورة فَسمي ذلك اليوم بيوم الجابية.

(26) وَقَرَ في صدره: استقر في صدره وثبت.

(27) انظر سيرته ص 179.

(28) ووري معه: دُفِن معه.

(29) الحبر: العالم المُتَبَحِّرُ في العلم.

top عبد الله بن سلام

عبد الله بن سلام

" من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة

فلينظر إلى عبد الله بن سلام"

 

كان الحُصيْنُ بنُ سَلام حَبْراً(1) من أحْبَارِ اليهودِ في يثربَ.

وكان أهلُ المدينةِ على اخْتِلافِ مِللِهم ونِحَلِهِم(2) يُجِلونَه ويعظِّمونه.

فقد كان معروفاً بَيْنَ النَّاسِ بالتُّقَى والصَّلاح مَوْصوفاً بالاسْتِقَامَةِ والصِّدْق.

***

وكان الحُصَيْنُ يحيا حياةً هادِئةً وادِعَةً؛ ولكنَّها كانَتْ في الوقتِ نَفْسِه جادَّة نافِعَةً…

فقد قَسَّمَ وقتَه أقساماً ثلاثة:

فَشَطْر في الكَنِيسِ(3) للوعظِ والعبادَة...

وشَطر في بُسْتَانٍ له يَتَعَهَّدُ نَخلَه بالتشْذيبِ والتأبير(4)...

وشطرٌ مَعَ التَّوْرَاةِ(5) للتَّفَقهِ في الدين...

***

وكان كُلَّمَا قَرَأ التَّوْرَاةَ وَقَفَ طويلاً عِنْدَ الأخْبَارِ التي تُبَشِّرُ بظهورِ نِبي في مَكَّةَ يُتَمِّمُ رِسالاتِ الأنبيَاءِ السابقين ويَخْتِمُها.

وكان يَسْتَقْصي أوْصافَ هذا النَّبيِّ المُرْتَقَبِ وعلاماتِه ويَهْتَزُّ فَرَحاً لأنَّهُ سَيَهْجُرُ بَلَدَهُ الذي يُبْعَثُ فيه وَسَيَتَّخِذُ من يَثْرِبَ مُهاجَراً له(6) ومقاماً.

وكان كُلَّمَا قَرَأ هذه الأخبارَ أو مَرّت بخاطِرِه يَتَمَنَّى على اللّهِ أنْ يَفْسَحَ له في عُمُرِه حَتَّى يَشْهَدَ ظهورَ هذا النبي الُمرْتَقَبِ، ويَسْعَدَ بلقائِه، ويكونَ أوَّلَ المؤمنينَ به.

***

وقد استجَابَ اللّهُ جَلَّ وعَزَّ دُعاءَ الحُصَيْنِ بنِ سَلام فَنَسَأ له(7) في أجَلِه حتَّى بُعِثَ نبيُّ الُهدَى والرحمةِ...

وكُتِبَ له أنْ يَحْظَى بِلِقَائِه وصحْبَتِه، وأنْ يُؤمِنَ بالحَقِّ الذي انْزِلَ عليه...

فلنَتْرُك للحُصَيْنِ الكلامَ لِيَسوقَ لنا قِصَّةَ إسْلامِه فهو لها أروى(8)، وعلى حُسْنِ عَرْضِها أقْدرُ.

قالَ الحُصَيْن بنُ سَلام: لَمَّا سَمِعْتُ بظهورِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  أخَذْتُ أتحَرَّى عن اسمِه ونَسَبَهِ وصِفاتِه وزمَانِه ومَكانِه، وأطابِقُ بينَها وبَيْنَ ما هو مَسْطورٌ(9) عِنْدَنا في الكتب حتى استَيْقَنْتُ من نُبُوَّتِهِ، وتَثَبَّتُّ من صِدق دَعْوَتِه ثم كَتَمْت ذلك عن اليهودِ، وعَقَلْتُ(10) لِساني عن التكلم فيه...

إلى أن كانَ اليَوْمُ الذي خَرَجَ فيه الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ من مكَّةَ قاصِداً المدينةَ.

فلما بَلَغ يَثْرِبَ ونَزَل بقُباء(11) أقْبَلَ رجُلٌ علينا وَجَعَلَ ينادِي في النَّاسِ مُعْلِناً قدومه كنتُ ساعتئذٍ في رَأسِ نَخْلَةٍ لي أعملُ فيها وكانت عَمَّتي خالِدَةُ بِنْتُ الحارِثِ جالِسَةً تحتَ الشَّجَرَةِ، فما إن سَمِعْتُ الخَبَرَ حَتَّى هَتَفْتُ:

اللّهُ أكبَرُ... اللّهُ أكبرُ.

فقالت لي عَمَّتي حينَ سَمِعَتْ تَكبيري: خَيّبَكَ اللّهُ...

واللّهِ لو كُنْتَ سَمِعْتَ بموسى بنِ عمرانَ قادِماً ما فَعَلْتَ شَيئاً فَوْقَ ذلك...

فقلت لها: أيْ عَمَّة(12)، إنَّه- واللّهِ- أخو موسَى بن عمرانَ، وعَلَى دينه...

وقَدْ بُعِثَ بما بُعِثَ به...

فَسَكَتَتْ وقالت: أهو النبيُّ الذي كنتم تُخْبروننا أنَه يُبْعَثُ مُصَدِّقاً لمن قَبْلَه ومُتَمِّماً لرسالات رَِّبه؟!

فقلت: نعم...

قالت: فذلك إذَنْ ...

ثُمَّ مَضَيْتُ من تَوِّي(13) إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  فرأيتُ الناسَ يَزْدَحِمُونَ بِبَابِه، فَزَاَحَمْتُهُمْ حَتَّى صِرْتُ قريباً منه.

فكان أوَّلَ ما سَمِعْتُه منه قولُه: "أيها النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ...

 وأطعموا الطعام... وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَام... تَدْخُلوا الجَنَّةَ بِسَلام..."

فَجَعَلْتُ أتفَرَّسُ فيه، وأتمَلَّى(14) منه؟ فأيْقَنْتُ أنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كذَّابٍ .

ثم دَنوتُ منه، وشَهِدْتُ أنْ لا إله إلا اللّه وأنَّ محمداً رسولُ اللّهِ.

فالتفتَ إليَّ وقَال: ما اسُمكَ؟

فقلت: الحُصَيْنُ بنُ سَلام.

فقال: (بل عبدُ اللّه بنُ سَلام).

فقلت: نعم، عبدُ اللّه بن سلام... والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أحبُّ أنَّ لي به اسماً آخَرَ بَعْدَ اليوم.

ثمَ انْصرَفْتُ من عندِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  إلى بيتي ودَعَوْتُ زَوْجَتي وأولادي وأهْلي إلى الإسلامِ فأسلموا جميعاً وأسْلَمتْ معهم عمتي خالِدَةُ، وكانت شيخَةً كبيرةً...

ثم إني قُلْتُ لهم: اكتُموا إسْلامي وإسلامَكُمْ عن اليهودِ حَتَّى آذَنَ لكم!!

فقالوا: نعم.

ثم رجَعْتُ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  وقُلْتُ له: يا رسولَ اللّهِ، إنَّ اليهودَ قَوْمُ بُهْتَانٍ وباطِل...

وإني أحِبُّ أن تَدْعُوَ وجُوهَهم(15) إليكَ.

وأن تسْتُرَني عَنْهُمْ في حُجْرَةٍ من حُجُرَاتِك ثم تَسْـألَهم عن مَنْزِلَتِي عِنْدَهم قَبْلَ أنْ يَعْلموا بإسْـلامي ثم تدعُوَهم إلى الإسلام.

فإنَّهم إنْ عَلِموا أنني أسْلَمْتُ عابوني، ورَمَوني بِكُلِّ ناقِصةٍ وبَهَتُوني(16)...

فأدخلني رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  في بعضِ حُجُراتِه، ثم دعاهم إليه وأخذَ يَحضُّهُمْ على الإسلام، ويُحَببُ إليهم الإيمان، ويُذَكِّرُهُمْ بِمَا عَرَفوه في كُتبِهِمْ مِنْ أمْرِهِ...

فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويُمَارونَه(17) في الحَقِّ، وأنا أسْمَعُ، فلما يئسَ من إيمانِهِمْ قال لهم: (ما مَنْزِلة الحصينِ بنِ سَلام فيكـم؟) .

فقالوا: سيدُنا وابنُ سيدِنا وحَبْرُنا وعالِمُنا وابنُ حَبْرِنا وعالِمنا.

فقالَ: (أفَرَأيتُمْ إن أسْلَمَ أفَتُسْلِمون)؟

قالوا: حاشا للّهِ ما كان لِيُسْلِمَ... أعاذَهُ اللّهُ من أنْ يُسْلِمَ .

فخرجتُ إليهم وقلت:

يا معشرَ اليهودِ، اتَّقوا اللّه واقْبَلُوا ما جاءَ بِهِ محمد.

فواللّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ إنَّه لَرسولُ اللّهِ، وتجدونَه مَكْتُوباً عِنْدَكُمْ في التوراةِ باسْمِهِ وصِفَتِهِ.

وإني أشْهَدُ أنه رسولُ اللّهِ وأومِنُ به، وأصدِّقُه، وأعْرِفُه...

فقالوا: كذبت، واللّهِ إنَّكَ لَشَرُّنا وابن شَرِّنا، وجاهلنا وابنُ جاهِلنا، ولم يَتْرُكوا عَيْباً إلا عابوني به.

  فقلت لرسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم : ألم أقُلْ لكَ: إنَّ اليهودَ قَوْمُ بُهْتَانٍ وباطل، وإنَّهُمْ أهْلُ غَدْرٍ وفجورٍ ؟

  ***

أقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بنُ سلام على الإسلامِ إقبالَ الظامئ الذي شاقَه المَوْردُ(18)...

وأولِعَ بالقُرَانِ، فكان لسانهُ لا يفتأ رْطباً بآياته البَيناتِ...

وتَعَلَّقَ بالنبيِّ صَلَواتُ اللّهِ وسلامُه عليه حَتَّى غدا ألْزَمَ له من ظِلِّه...

ونَذَرَ نَفْسَه للعَمَلِ لِلْجَنَّةِ حَتَّى بَشَّره بها رسولُ اللّهِ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه بِشارَةً ذاعتْ بين الصحابة الكرام وشاعت...

وكان لهذه البِشَارَةِ قِصَّة رواها قَيْسُ بنُ عُبَادَةَ وغيرُه.

قال الراوي: كنت جالساً في حَلْقَةٍ من حَلَقاتِ العِلْمِ في مَسْجِدِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  في المدينةِ.

وكان في الحَلْقَةِ شَيْخٌ تَأنَسُ به النَّفْسُ ويَسْتَروِحُ به القلب.

فَجَعَلَ يحدِّثُ النَّاسَ حديثاً حُلْواً مؤثِراً...

فلما قامَ قال القوم:

من سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى رَجُل من أهْلِ الجنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلى هذا.

فقلت: من هذا؟!

فقالوا: عبدُ اللّهِ بنُ سلام.

فقلتُ في نفسي: واللّهِ. لأتبَعَنَّهُ؟ فَتَبِعْتُهُ؟ فانْطَلَقَ حَتَّى كاد أن يَخْرُج من المدينة، ثم دخَلَ منزله.

فاستأذَنْت عليه؛ فأذِنَ لي.

فقال: ما حاجتُكَ يا ابن أخي؟

فقلت: سمعتُ القومَ يقولون عَنْكَ- لما خرجْتَ من المسجد-:

من سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى رجل من أهلِ الجنَّةِ فَلْيَنْظرْ إلى هذا.

فَمَضيْتً في إثْرِكَ، لأقِفَ على خَبَرِكَ، ولأعلَمَ كيف عَرَفَ الناس أَنّكَ من أهل الجنًةِ.

فقال: اللّه أعلم بأهل الجنة يا بُنَىَّ.

فقلت: نعم... ولكن لابُدَّ لما قالوه من سبب.

فقال: سأحَدِّثُكَ عن سببهِ.

فقلت: هاتِ... وجَزَاكَ اللّهُ خيراً.

فقال: بيناْ أنا نائِم ذاتَ ليلةٍ على عَهْدِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  أتاني رَجُلٌ فقال لي: قُمْ، فَقُمْتُ، فأخَذَ بيدي، فإذا أنا بِطَريق عن شمالي فَهمَمْتُ أنْ أسْلكَ فيها...

فقال لي: دَعْهَا فإنَّها لَيْسَتْ لك...

فَنَظَرْتُ فإذا أنا بِطَرِيتي واضِحَةٍ عَنْ يميني فقال لي:

اسلُكْها...

فَسَلَكْتُها حتَّى أتيْتُ رَوْضَةً غَنَّاءَ واسِعَةَ الأرجاءِ(19)، كثيرةَ الخُضْرَةِ رائِعَةَ النُّضْرَةِ.

وفي وسطها عَمود من حديدٍ أصْلُه في الأرضِ ونِهايَتُه في السماء.

وفي أعلاهُ حَلْقَة من ذَهَبٍ .

فقال لي: اِرْقَ عليه.

فقلت: لا أستطيعُ.

فجـاءني وَصيف(20) فَرَفَعَنِي، فَرَقَيْتُ (21)؛ حَتَّى صِرْتُ في أعلى العَمودِ، وأخَذْتُ بالحَلْقَةِ بِيَدِيَّ كلْتَيْهِما.

وبقيتُ متَعَلِّقاً بهَا حَتَّى أصْبَحْتُ.

فلما كانت الغداةُ أتيْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  وقَصَصتُ عليه رؤيايَ فقال:

أمَّا الطريقُ الَّتي رأيتَها عن شِمالِكَ فهي طريقُ أصْحابِ الشِّمالِ من أهل النَارِ...

وأمَّا الطريقُ التي رأيتَهـا عن يَمِينكَ فهي طريقُ أصْحـابِ اليمين من أهلِ الجنة...

وأمَّا الرَّوْضَةُ التي شاقَتْكَ بخضْرَتِها ونُضْرَتها فهي الإسلام...

وأما العمودُ الذي في وَسَطِهَا فَهُوَ عمودُ الدين...

وأمَّا الحَلْقَةُ فهي العُرْوَة الوثْقَى...

ولَنْ تَزَالَ مُسْتَمْسِكاً بها حتى تموتَ...(*)

***

 
 

(*) للاستزادة من أخبار عبد الله بن سلام انظر:

1- الإصابة (طبعة السعادة): 4/ 80- 81.

2- أسد الغابة: 76/3 1- 77 1.

3- الاستيعاب: (طبعة حيدر آياد) 383/1- 384.

4- الجرح والتعديل ج2 ق 2 2/62-63.

5- تجريد أسماء الصحابة: 1/338-339.

6- صفة الصفوة: 1/301،303.

7- تاريخ خليفة بن خيَّاط: 8.

8- العبر: 1/32،52.

9- شذرات الذهب: 1/53.

0 1- تاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 230- 231.

11- تاريخ دمشق لابن عساكر 7/334-347.

12- تذكرة الحفاظ: 1/ 22- 23.

13- السيرة النبوية لابن هشام انظر الفهارس.

14- البداية والنهاية: 3/ 211- 212.

15- حياة الصحابة انظر الفهارس في الرابع.

 

 


(1) الحَبرُ: رئيس الكَهَنَة عند اليهود، والحبرُ العالم المتبحرُ في العلم أيضاً.

(2) نِحَلهم: أديانهم.

(3) الكنيس: معبد اليهود.

(4) التأبير: تلقيح النخل وإصلاحه.

(5) التوراة: الكتاب الذي أنزل عل موسى عليه الصلاة والسلام.

(6) مهاجراً له: بفتح الحم مكاناً لهجرته.

(7) نَسَأ: أخرَ.

(8) أرْوَى: أجود رواية.

(9) مسطور: مكتوب.

(10) عقلت لساني: ربطته ومنعته.

(11) قباء: قرية على بعد ميلين من المدينة.

(12) أي عمّة: يا عمة.

(13) من توي: فَوراً من غير إبطاء.

(14) أتملى: أملأ عيني مِنْهُ.

(15) وجوههم: رؤساؤهم وسادَتهم.

(16) البُهتان: افتراء الكذب.

(17) يمارونه: ينازعونه.

(18) شاقه المورد: لَذَّ له المورد وطاب.

(19) الأرجاء: ا لأنحاء.

(20) الوصيف: الخادِمُ.

(21) فرقيتُ: فَصَعَدْت.

top عتبه بن غزوان

عتبة بن غزوان

 
 
 

" إن لعتبة بن غزوان من الإسلام مكاناً"

[ عمر بن الخطاب ]

 
 

أوَى أميرُ المؤمنينَ عَمرُ بنُ الخطابِ بَعْدَ صلاةِ العشاءِ إلى مَضْجَعِهِ فقد كان يريدُ أنْ يصيبَ حظّاً من الراحةِ لِيَسْتَعِينَ به على العَس(1) في الليل.

لكِن النومَ نَفَرَ عن عيني الخليفةِ، لأنَّ البريدَ حَمَلَ إليه أنَّ جُيوش الفُرْسِ المنهزمةَ أمامَ المسلمين كانت كلما أوْشكَ جُنْدُه على أنْ يُجْهِزوا(2) عليها يأتيها المددُ من هُنا وهناك، فلا تَلْبثُ أن تَسْتَعيدَ قوَّتها وتستأنِفَ القتال.

وقيل له: إنَّ مدينةَ الأُبلّة(3) تُعَدُّ من أهَمِّ المصادِرِ التي تُمِدُّ جيوش الفرسِ المُنْهَزمَةَ بالمالَ والرِّجال.

فَعَزَمَ على أن يُرْسِلَ جيشاً لِفَتْح الأبلَّةِ، وقَطْع إمْداداتها عن الفرس، لكِنَّهُ اصْطَدَمَ بقلَّة الرجالِ عنده.

ذلك لأنَّ شبَّانَ المسلمين كهولهم وشيوخهم قد خرجوا يَضْرِبون في فجاء(4) الأرضِ غُزاةً في سبيل اللّهِ، حتَّى لم يَبْقَ لَدَيْهِ في المدينةِ إلا النَّزْرُ(5) القليلُ.

فعمد إلى طريقته التي عُرِفَ بها...

وهي التعويضُ عن قِلَّة الجُنْدِ بقُوَّة القائد...

فَنَثَرَ كِنانَةَ(6) رجالهِ بَيْنَ يَديْهِ وأخَذ يَعْجِمُ (7) عِيدانهم واحِداً بعد آخرَ فما لبثَ أنْ هَتَفَ:

وَجَدْتُه...

نعم وجدته...

ثم مضى إلى فراشهِ وهو يقول: إنه مجاهدٌ عَرَفَتْهُ بدر وأحدٌ والخندقُ وأخواتُها...

وشَهِدَتْ له اليمامةُ ومواقِفُها...

فما نَبَا له سيف(8)، ولا أخْطَأتْ- له رمية...

ثم إنه هاجر الِهجْرَتَيْن(9)، وكان سابع سَبْعَةٍ أسْلموا على ظهرِ الأرضِ...

ولما أصبحَ الصُّبحُ، قال:

ادْعوا لي عُتْبَةَ بن غَزوانَ.

وعقَدَ له الرايةَ على ثلاث مائةٍ وبِضعَةَ(10) عَشَر رجلاً...

وَوَعَدَه بِأنْ يمِدَّه تِباعاً بما يَتَوافَرُ له من الرجال.

***

ولما عَزَمَ الجيشُ الصغيرُ على الرحيلِ؟ وَقفَ الفاروقُ يودِّعُ قائده عُتْبَةَ ويُوصيه فقال له:

يا عُتبةُ إني قد وَجَّهْتُكَ إلى أرضِ الأبُلّة، وهى حِصْن من حُصونِ الأعداءِ فأرجو اللّه أن يًعينكَ عليها.

فإذا نزلت بها فادْعُ قوْمها إلى اللّهِ، فمن أجابكَ فاقْبَل منه. ومن أبى فَخُذْ منه الجِزْيَة(11) عن صَغارٍ وذِلَّة...

وإلا فَضع في رقابهم السيفَ(12) في غَيْرِ هوادَةٍ .

واتقِ اللّهَ يا عُتْبَةُ فيما وُلّيتَ عليه.

وإياكَ أنْ تنازِعَكَ(13) نفسُكَ إلى: بِمر يُفْسِدُ عليكَ اخرتكَ، واعْلَمْ أنكَ صَحِبْتَ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، فأعزَّكَ اللّهُ به بعدَ الذِّلَّة، وقوَّاكَ به بعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أميراً مُسَلَّطاً، وقائداً مُطاعاً، تقولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وتأمُرُ فَيُطاعُ أمْرُكَ فيالها من نِعْمَةٍ إذا هي لم تُبْطِركَ(14) وتَخْدَعْكَ وتَهْوِيِكَ إلى جَهَنَّمَ أعاذَك اللّهُ وأعاذَني منها.

***

مَضَى عُتبةُ بنُ غزوانَ بِرِجالِه ومَعَه زوجَتُه وخَمْسُ نِسْوَة أخرياتٌ من زوجاتِ الجندِ وأخواتهم، حتى نزلوا في أرض قَصْبَاءَ(15) لا تَبْعُدُ كَثِيراً عن مدينة الأبُلّة.

ولم يكن معهم شَيء يأكُلُونَه...

فلما اشتَد عليهم الجوعُ قال عتبةُ لِنَفَرٍ منهم: الْتَمِسُوا(16) لنا في هذه الأرضِ شيئاً نأكُلُه.

فقاموا يبحثون عَمَّا يَسُدُّ جَوْعَتَهم، فكانت لهم مع الطعام قِصَّةٌ رواها أحدُهم فقال:

بينما كُنَّا نبحثُ عن شَيءٍ نأكُلُه؛ دَخَلْنَا أجَمَةً (17) فإذا فيها زِنْبيلان(18) في أحدهما تمرٌ ، وفي الآخرِ حَب أبيَضُ صغير بِقِشْرٍ أصْفَرَ، فَجَذَبْنَاهُمَا حتى أدْنَيْناهما من العَسْكَرِ، فنظر أحَدُنا إلى الزِّنْبِيلِ الذي فيه الحَبُّ وقال:

هذا سُم أعَدَّه لكم العَدُوُّ، فلا تَقْربُنَّه.

فَمِلْنا إلى التَّمرِ، وجعلنا نَأكُلُ مِنْهُ...

وفيما نحن كذلك إذْ بِفَرَس قد قَطَعَ قِيادَه(19)، وأقْبَلَ على زِنبيلِ الحَبِّ وجعلَ يأكُلُ منه، فو اللّه لَقَدْ هَمَمْنا بأنْ نَذبَحَهُ قبلَ أنْ يموتَ لِنَنْتَفِعَ بِلَحْمِهِ.

فقام إلينا صاحِبُه وقال: دعوه، وسَأحرُسُه اللَّيلَةَ فإنْ أحْسَسْتُ بموتِه ذَبَحْتُه.

فلما أصْبَحْنَا وَجَدنا الفرسَ معافًى لا ضَرَرَ فيه.

فقالت أختي: يا أخي، إني سَمِعْتُ أبى يقول: إن السُّمَّ لا يَضُرُّ إذا وُضِعَ على النارِ وانْضِج.

ثمَّ أخَذَتْ شيئاً من الحَـب ووضَعَتْه في القِدْرِ، وأوقَدَتْ تَحْتَه.

ثم ما لَبِثَتْ أنْ قالَتْ: تعالوا انظُرُوا كَيْفَ احمَرَّ لونُه، ثُمَّ جَعَلَ يَتَشَقَّقُ عنه قِشْرُهُ، وتَخْرُجُ مِنْهُ حُبوبُه البيضُ.

فألقَينَاه في الجَفْنَةِ(20) لنأكُلَه، فقال لنا عُتْبَةُ: اذكروا اسم اللّهِ عليه وكلوه...

فأكلناه فإذا هو غايَةٌ في الطيب.

ثم عَرَفْنَا بعد ذلك أنَّ اسْمَهُ الأرُزُّ.

***

كانت الأبلة التي اتَّجه إليها عتبةُ بنُ غَزْوانَ بجيشهِ الصغير مدينةً حصينةً قائمَةً على شاطئِ دِجْلَة(21).

وكان الفرسُ قد اتَّخذوها مخازِنَ لأسْلِحَتِهم.

وجعلوا من أبراج حُصونها مراصِدَ(22) لمراقَبَةِ أعدائهم.

لكنَّ ذلك لم يمنع عُتْبَةَ من غزوِها على الرغم من قِلَّةِ رجالهِ وضآلةِ سلاحِه.

إذْ لم يَجْتَمِعْ له من الرجالِ غيرُ ستِّ ماِئَةِ مُقاتِل تَصْحَبُهم طائِفَةٌ قليلة من النساء.

ولم يكن عِنْدَهُ من السِّـلاح غيرُ السُّيوفِ والرماح. فكان لا بدَّ له من أنْ يَسْتَعْمِلَ ذكاءه.

***

أعَدَّ عُتْبَةُ للنِّسْوَةِ راياتٍ رَفَعَهَا على أعوادِ الرماح...

وأمَرَهُنَّ أنْ يَمْشِينَ بها خَلْف الجيشِ، وقال لهن:

إذا نَحْنُ اقْتَرَبنا من المدينةِ فأثِرْنَ الترابَ وراءنا حتَّى تمْلأن به الجَوَّ.

فلما دَنَوا من الأبُلَّةِ خَرَجَ إليهم جندُ الفُرْسِ، فرأوا إقْدَامَهمْ عليهم.

ونظروا إلى الرَّاياتِ التي تَخْفِق وراءَهم.

ووجدوا الغبارَ يَمْلأ الجَوَّ خَلفهم.

فقال بعضُهم لبعض: إنهم طليعةُ(23) العسكرِ، وإنَّ وراءَهم جيشـاً جرّاراً(24) يثيرُ الغبارَ، ونحنُ قِلّة…

ثُمَّ دبَّ في قلوبهمُ الذعْرُ، وسَيْطَرَ عليهم الجَزَع، فطفِقوا يَحْمِلونَ ما خَفَّ وزْنُهُْ وغلا ثَمَنُه، ويتسابقون إلى رُكوبِ السُّفُنِ الراسِيةِ في دِجْلَةَ ويُوَلُّونَ الأدبار(25) فدخلَ عتبةُ الأُبلّة دونَ أنْ يَفْقِدَ أحداً من رِجالِه...

ثم فَتَحَ ما حَوْلَها من المُدُنِ والقُرَى.

وغنم من ذلك غَنَائِمَ عَزَّت على الحَصْرِ(26)، وفاقَتْ كل تَقْديرٍ؛ حَتَّى إنَّ أحَدَ رجالِه عادَ إلى المدينَةِ، فسَأله الناسُ:

كَيْفَ المسلمونَ في الأُبلّة؟

فقال: عَمَّ تَتَساءَلون؟!

واللّهِ لقد تركتُهمْ وهم يَكْتالون الذَّهْبَ والفضةَ اكتيالاً... فأخذ الناس يَشُدُّون إلى الأُبلّة الرِّحالَ(27)

***

عند ذلكَ رأى عُتْبَةُ بنُ غزوانَ أنَّ إقامَةَ جنودِه في المُدُنِ المَفْتُوحَةِ سوف تُعَوِّدُهُم على لينِ العيش، وتُخَلِّقُهُم بأخلاقِ أهلِ تلك البلادِ، وتَفُلّ(28) من حِدَّة عزائمهِم على مُوَاصَلَةِ القتالِ؛ فكتبَ إلى عمرَ بنِ الخطابِ يَسْتَأذِنُه في بناءِ البَصْرَةِ(29)، ووصَفَ له المكانَ الذي اختارَه لها فأذن له.

***

اخْتَطَّ(30) عُتْبَةُ المدينَةَ الجديدةَ...

وكان أوَّلَ ما بناه مسجدُها العظم...

ولا عجب...

فمن أجْل المَسْجِدِ خَرَجَ هُو وأصحابُه غُزَاةً في سبيلِ اللّهِ.

وبالمَسْجِدِ انْتَصَرَ هو وأصْحَابُه على أعداءِ اللّه...

ثم تَسَابَقَ الجُنْدُ على اقتِطاعِ(31) الأرضِ وبناءِ البيوتِ...

لكنَّ عتبةَ لم يَبْنِ لنفسِه بيتاً، وإنما ظَلَّ يَسْكُنُ خَيْمَةً من الأكْسِية...

ذلك لأنَّه كان قد أسَرَّ في نَفْسِه أمراً...

***

فلقد رأى عُتْبَةُ أنَّ الدنيا أقبلت على المسلمينّ في البَصْرَةِ إقبالاً يُذهِلُ المرءَ عن نفسهِ.

وأنَّ رجالَه الذين كانوا مُنْذُ قليل لايعرفون طعاماً أطْيبَ من الأرُزِّ المَسْلوقِ بِقشْرِه قَدْ تَذَوّقوا مآكلَ الفُرْسِ من الفالوذج(32) واللوزِينَج(33) وغيرِهما واستطابوها.

فخشي على دينه من دنياه....

وأشفقَ على الآجِلَة من العَاجِلَةِ(34)...

فَجَمَعَ النَّاسَ في مَسْجِدِ الكوفةِ وخَطَبَهُمْ فقال:

أيها الناس إنَّ الدُّنيا قد آذنَتْ(35)، بالانقضاء، وأنتُمْ مُنْتَقِلون عَنْها إلى دارٍ لا زوال فيها، فانتقِلوا إليها بخير أعمالِكم. ولقد رأيتني سابعَ سبعةٍ(36) مع رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، وما لنا طعام غيرُ ورق الشجرِ حتى قَرِحَتْ منه أشداقُنَا(37).

ولقد التقطتُ(38) بُرْدَةً- ذات يوم- فَشَقَقْتُهَـا بَيْني وبينَ سَعْدِ بن أبي وقَّاص(39) فاتَّزَرْتُ(40) بنصفها، واتَّزرَ سعد بنصفها الآخر.

فإذا نحن اليومَ لم يَبْقَ مِنَّا واحذ إلا وهو أمير على مِصْرٍ من الأمصار...

وإني أعوذُ باللّهِ أن أكونَ عظيما عند نفسي صغيراً عندَ اللّه.

ثم اسْتَخْلَفَ عليهم رَجُلاً منهم، وودَّعَهُم ومَضى إلى المدينةِ.

فلما قَدِمَ على الفاروقِ اسْتَعْفاه(41) من الولايةِ فلم يُعْفِه، فألحَّ عليه فأصرَّ عليه الخليفةُ، وأمَرَه بالعودةِ إلى البَصْرَةِ.. فأذْعَنَ(42) لأمرِ عُمَرَ كارِهاً، ورَكِبَ ناقَتَهُ وهو يقول:

اللهم لا ترُدَّني إليها...

اللهم لا ترُدَّني إليها...

فاستجاب اللّهُ دعاءَهُ إذ لم يُبْعِدْ عن المدينةِ كثيراً حتَّى عَثَرتْ ناقَتُه، فَخَرَّ عنها صريعاً... وفارق الحياة...(*)

***

 
 

(*) للاستزادة من أخبار عتبة بن غزوان انظر:

1- الإصابة: الترجمة 5411 7- معجم البلدان: عند الكلام على البصرة: 10/430.

2- الاستيعاب بهامش الإصابة: 3/113 8- الطبقات الكبرى لابن سعد: 7/1.

3- تاريخ الإسلام للذهبي: 2/7 9- تاريخ الطبري: انظر الفهارس في العاشر.

4- أسد الغابة: 3/363 10- سير أعلام النبلاء: 1/221-222.

5- تاريخ خليفة بن خياط: 1/95-98 11- حياة الصحابة: انظر الفهارس في الرابع.

6- البداية والنهاية: 7/48.

 

 


(1) العَس: الطواف بالليل للحِراسة.

(2) يجهزوا عليها: يقضوا عليها.

(3) الأبلة: مدينة في جوار البَصْرَةِ ألحقت بها وغدت جزعاً فها.

(4) يضربون في فجاج الأرض: يمشون في سُب!ر الأرضِ غزاةً في سبيل اللّه.

(5) النزر: القليلُ الضئيلُ.

(6) الكنانة: جَعْبَةِ المهام.

(7) يعجم عيدانهم: يختبر عيدانهم (شبههم بالسِّهام).

(8) نبا السيف: لم يصب.

(9) الهجرتان: الهجرة إلى بلاد الحبشة والهجرة إلى المدينة.

(10) بضعة عشر: البضع من الثلاثة إلى التسعة.

(11) الجزية: ما يأخذه الحاكم المسلم من الذمي من المال.

(12) ضع السيف في رقابهم: حاربهم واقتلهم.

(13) تنازِعك نفسك: تدعوك نفْسُك.

(14) تبطرك: البَطَرُ سوء التصرُّف بالنعمة.

(15) قصباء: ذات قَصَب، والقصب نباتْ مائي مُجَوَّف.

(16) اقسوا: ابحثوا واطلبوا.

(17) الأجمة: الشجر الكثيرُ الملتفُّ.

(18) الزنبيل: القفَّة.

(19) قطع قيادَه: قطع رَسَنَه.

(20) الحفنة: القصعة الكبيرة.

(21) دجلة: نهر ينبع من تركيا ثم يجري في العراق، ويصبُّ في شطّ العرب.

(22) مراصد: جمعُ مَرْصَد، وهو مكانُ رَصْدِ العدوِ ومراقبته.

(23) طليعة العسكر: مقدمة العسكر.

(24) الجيش الجرار: الجيش الكثيف الكثير العَدد والعُدد.

(25) يولون الأدبار: ينهزمون.

(26) عَزّت على الحصر: تعذّر إحصاؤها.

(27) يشدون الرحال إلى الأبلة: يسافرون إليها.

(28) تفل من حدة عزائمهم: تضعف من قوة عزائمهم.

(29) البَصْرَةِ: مدينة في العراق على شط العرب.

(30) اختط عتبة المدينة: خططها.

(31) اقتطاع الأرض: أخذها وامتلاكها.

(32) الفالوذج: صنف من الحلوى يصنع من الدقيق والسمن والعَسَل.

(33) اللوزينج: صنف من الحلوى يشبه القطايف يُحشى باللوز.

(34) الآجلة: هي الآخرة والعاجلة الدنيا.

(35) آذنت بالانقضاء: أعلنت عن أنها توشك أن تنتهي.

(36) رأيتني سابع سبعة: رأيت نفسي بين المسلمين ولم يكن قد أسلم أحد غيرنا.

(37) قرحت منه أشداقنا: تقرّحت منه شفاهُنا.

(38) التقطت بردة: أخذتها من الأرضِ.

(39) سعد بن أبي وقاص: انظر سيرته في الجزء الرابع من هذه السلسلة.

(40) اتزرت بنصفها: جعلت نصفها إزاراً لي..

(41) استعفاه من الولاية: طلب منه أن يعفيه منها ويعزله عنها.

(42) أذعن لأمر عمر: خضع له واستجاب.

top عمير بن سعد

عمير بن سعد

 
 

(1)

" عمير بن سعد نسيج وحده "

 [ عمر بن الخطاب ]

 

 

تجرَّع الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ الأنصاري كأس اليتم والفاقة (1) منذُ نعومَةِ أظفاره.

فقد مَضَى أبوه إلى ربِّه دونَ أن يترُكَ له، مالاً أوْ مُعيلاً.

لكنَّ أمَّه ما لَبِثَتْ أنْ تَزَوَّجتْ من ثَرِيٍّ من أثرياء "الأوس" (2)، ويُدْعَى الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ ، فَكَفَلَ ابنَها عُمَيْراً، وضَمَّه إليه.

وقد لقي عُمَيْرٌ من برِّ الجُلاس وحُسْنِ رِعايته وجميلِ عَطْفِه ما جَعَله يَنْسَى أنّه يتيم.

فأحـبَّ عميرٌ الجُلاسِ حُبَّ الابنِ لأبيه،؟ أولع الجُلاسُ بِعُمَيْر وَلَعَ الوالد بولده.

وكان كلما نما عُمَيْرٌ وشبَّ، يَزْدَادُ الجُلاسُ له حبّاً وبه إعجاباً لما كان يَرَى فيه من أمارات(3) الفِطْنَةِ والنَّجابَةِ التي تبدو في كُلِّ عملِ من أعماله، وشمائلِ (4) الأمانَةِ والصِّدْقِ التى تَظْهَرُ في كلِّ تَصرُّف من تَصَرُّفاته.

وقد أسلم الفتى عميرُ بنُ سعدٍ ، وهو صغيرٌ لم يُجَاوِزِ العاشِرَةَ من عُمُرِه إلا قليلاً، فَوَجَدَ الإيمانُ في قَلْبِهِ الغَضِّ مكاناً خالياً فَتَمَكَّن منه، وألفى (5) الإسلامُ في نفسِه الصَّافِيَةِ الشَّفَّافَةِ تربة خصبة فَتَغلْغَلَ في ثناياها؟ فكان على حَدَاثَة سنِّه لا يتأخَّرُ عن صلاةٍ خلفَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، وكانت أن تَغْمُرُها الفَرْحَةُ كُلَّما رأيته ذاهباً إلى المسجدِ أو آيباً منه، تارَةً مع زوجها وتارةً وحدَه.

***

وسـارَت حياةُ الغلام عمير بنِ سعدٍ على هذا النحو هانئةً وادعةً لا يعكِّرُ صَفْوَها مُعَكِّر، ولا يُكدِّرُ هنَاءَتَها مكَدِّر، حتى شاء اللّه أنْ يعرضَ الغُلام اليافِعَ(6) لتَجْرِبَةٍ من أشدِّ التجاربِ عُنْفاً وأقساها قَسْوَةً، وأنْ يَمْتَحِنَه امتحاناً قَلَّما مَرَّ بِمثْلِه فتًى في سنِّه.

ففي السنةِ التاسعةِ للهِجْرَةِ أعلن الرسولُ صلى اللّهِ وسلامُه عليه عَزْمَه على غَزْوِ الرّومَ في تَبُوك(7)، وأمَرَ المسلمين بأنْ يَسْتَعِدُّوا ويَتَجَهُّزوا لذلك.

وكان عليه الصلاةُ والسلامُ إذا أراد أنْ يغزوَ غَزْوَةً لم يصرِّح بها، وأوْهَمَ أنه يُريدُ جِهَةً غَيْرَ الجهةِ التي يَقْصِد إليها، إلا في غزوةِ تَبُوك، فإنَّه بَينَّهَا للناس، لِبُعْدِ الشقَّة(8)، وعِظَم المَشَقَّةِ، وقُوةِ العدوِّ؛ ليكونَ الناس على بَينةٍ من أمرِهم، فيأخذوا للأمر أهْبَتَه (9) ويُعِدُّوا له عُدَّته. وعلى الرغم من أنَّ الصيفَ كان قد دخل، والحرَّ قد اشتَدَّ، والثمارَ قد أْينَعَتْ، والظلالَ قد طابت، والنفوسَ قد رَكَنَتْ إلى التَّراخي والتَّكاسُلِ؛ على الرغم من ذلك كلِّه فقد لبَّى المسلمون دَعوَةَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام وأخذوا يَتَجَهَّزون ويَستَعِدُّون.

غيرَ أنَّ طائفةً من المنافقين(10) أخذوا يُثَبطونَ(11) العَزَائِمَ، ويُوهِنون الِهمَمَ (12)، ويُثيرون الشُّكوكَ، ويَغمِزون(13) الرسولَ صلواتُ اللّه وسلامُه عليه، ويُطلقون في مَجالِسِهمِ الخاصةِ من الكلماتِ ما يَدْمَغُهُم بالكُفْرِ دَمْغاً (14).

وفي يومٍ من هذه الأيَّام التي سَبَقَت رحيل الجَيْشِ، عادَ الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعدٍ إلى بَيْتِه بَعْدَ أداءِ الصلاةِ في المَسجِدِ وقد امتلأت نَفْسُه بطائفة مُشْرِقَةٍ من صُوَر بَذْلِ المسلمين وتَضحِيَتِهِم رَآها بِعَيْنَيه، وسَمِعَها بأذُنَيه.

فقد رأَى نسـاءَ المُهاجِرِين والأنْصارِ يُقْبِلْنَ على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  وَيَنْزَعْنَ حُلِيَّهنَّ ويُلْقِينَه بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِه الجَيشَ الغازِيَ في سبيل اللّه.

وأبصرَ بعَيْنَيْ رأسِه عثمانَ بنَ عَفَّان يأتي بِجِراب فيه ألْفُ دينارٍ ذَهَباً، ويقدِّمُه للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ.

وشَهِدَ عبدَ الرحمن بنَ عَوف يَحْمِلُ على عاتِقِه مائتي أوقِيَّةٍ من الذَّهَبِ ويُلْقِيْها بين يَدَي النبيِّ الكريم.

بل إنَّه رأى رجلاً يَعْرِضُ فِراشَه للبَيْع لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِه سَيفاً يُقاتلُ به في سبيلِ اللّه.

فَأخَذَ عُمَيْرٌ يَسْتَعيدُ هذه الصُّوَرَ الفَذَّةَ(15) الرائِعَةَ، ويَعْجَبُ من تباطُؤ الجُلاس عن الاسْتِعْدادِ للرَّحيلِ مع الرسولِ صلواتُ اللّه وسلامه عليه، والتأخّرِ عن البَذْل على الرغم من قدرته ويَسَاره (16).

وكأنَّما أرادَ عُمَيْرٌ أنْ يَسْتَثيرَ هِمَّةَ الجُلاسِ ويَبْعَثَ الحَمِيَّةَ (17) في نَفْسِه بم فاخَذَ يَقُصُّ عليه أخبارَ ما سَمِعَ ورأى وخاصَّةً خَبَرَ أولئك النَّفَرِ من المؤمنين الذين قَدِموا على رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، وسألوه في لَوْعَةٍ أنْ يَضُمَّهُمْ إلى الجيش الغازي في سبيل اللّهِ فَرَدَّهم النبيُّ لأنَّه لم يَجِدْ عِنْدَه من الرَّكائبِ ما يَحْمِلُهم عليه، فَتوَلَّوا(18) وأعيُنُهُمْ تفيضُ من الدَّمْع حَزَناً ألاَّ يَجِدوا ما يُبلِّغُهُمْ أمْنِيَتّهَمْ في الجهاد، ويُحقِّقُ لهم أشواقَهُمْ إلى الاستِشْهادِ.

لكنَّ الجُلاسَ ما كادَ يَسْمَعُ من عُمَيْرٍ ما سَمِعَ حَتَّى انطلقت من فَمِه كلمة أطارتْ صوَابَ(19) الفَتَى المؤمِن.

إذْ سَمِعَهُ يقول: "إنْ كان محمدٌ صادقاً فيما يَدَّعيه من النُبوَّةِ فَنَحْن شَر من الحَميِرِ".

***

لقد شُدِه (20) عُمَيرٌ مِمَّا سَمِعَ؟ فما كان يَظُنُّ أنَّ رجلاً له عقل الجُلاسِ وسِنُّه تَنِدُّ(21) من فَمِهِ مثلُ هذه الكلمةِ التي تُخْرِجُ صاحبها من الإيمان دفعةً، واحدةً وتُدْخِلُه في الكفرِ من أوْسَع أبوابه.

وكما تَنْطلقُ الآلاتُ الحاسِبَةُ الدقيقةُ في حِسابِ ما يُلْقَى إليها من المسائل، انطلق عَقْلُ الفَتَى عُمَيْرِ بنِ سعدٍ يُفَكِّر فيما يجب عليه أن يصنعه.

لقد رأى أنَّ في السكوتِ عن الجُلاسِ والتَّسَتُّرِ عليه خيانةً للّهِ ورسولِه، وإضراراً بالإسلام الذي يَكيدُ له المنافقون ويأتمرون به (22).

وأنَّ في إذاعةِ ما سَمِعَـه عقوقاً بالرَّجُلِ الذي يَنْزِلُ من نَفْسِـه منْزِلَةَ الوالد، ومجازاةً لإحسانه إليه بالإساءةِ؛ فهو الذي آواه من يُتْم وأغْنَاهُ من فقر وعوّضه عن فَقْدِ أبيه.

وكان على الفتى أنْ يَخْتَارَ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحْلاهُما مُرٌّ . وسرعان ما اختارَ...

فالتفتَ إلى الجُلاسِ وقال: واللّه يا جُلاسُ ما كانَ على ظَهْرِ الأرضِ أحدٌ بعْدَ محمد بنِ عبدِ للّه أحَبَّ إليَّ مِنْكَ.

فأنت آثرُ(23) الناس عندي، وأجلُّهم يداً(24) علَّي، ولقد قُلْتَ مَقَالةً إن ذَكَرْتُها فَضَحْتُكَ، وإنْ أخْفَيتُها خُنْتُ أمانتي وأهْلكْتُ نفسي وديني، وقد عزمتُ على أنْ أمْضِيَ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، وأخْبِرَه بما قلت، فكن على بَيَنّةَ من أمرك.

***

مضى الفتى عميرُ بنُ سعدٍ إلى المسجدِ، وأخبرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ بما سَمِعَ من الجُلاسِ بن سُوَيْدٍ .

فاسْتَبْقاه الرسولُ صلواتُ اللّه عليه عنْدَه، وأرسلَ أحَد أصحابِه ليَدْعُوَ له الجُلاسَ.

وما هو إلا قليل حَتَّى جاءَ الجُلاسُ فَحَيّا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، وجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْه، فقال له النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ:

(ما مَقالة سَمِعَها مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ ؟!) وذَكَرَ لَهُ ما قَالَهُ.

فقال: كَذَبَ علَّي يا رسولَ اللّه وافْتَرَى، فما تَفَوَّهْتُ بِشيءٍ من ذلك.

وأخَذَ الصَّحَـابَةُ يُنَقِّلون أبصارَهم بين الجُلاسِ وفَتَاه عُمَيْرِ بن سَعْدٍ كأنهم يريدون أن يَقْرَؤوا على صَفْحَتَي وَجْهَيْهما(25) ما يُكِنّه(26) صدراهما.

وجعلوا يَتَهامَسون: فقال واحِدٌ من الذين في قلوبِهم مَرَضٌ(27): فتًى عاق أبى إلا أنْ يُسِيءَ لِمَنْ أحسَنَ إليه.

وقال آخرون: بَل إنَّه غلام نَشَأ في طاعةِ اللّه، وإنَّ قَسَمَات(28) وَجْهِه لَتَنْطِقُ بِصِدْقِه.

والتَفَتَ الرَّسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى عمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قد احتَقَنَ (29) بالدَّمِ، والدُّموعُ تَتَحَدَّرُ مِدْراراً مِنْ عَيْنًيه، فتتساقَطُ على خَدَّهِ وصَدْرِه وهو يقول:

اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...

اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به...

فانْبَرَى(30) الجُلاسُ وقال: إنَّ ما ذكرتُه لك يا رسول اللّهِ هو الحقُّ، وإن شِئْتَ تحالَفنا(31) بَيْنَ يديك.

وإني أحْلِفُ باللّه أني ما قلتُ شَيئاً مِمَّا نَقَلَه لك عُمَيْر.

فما إنْ انتهى من حَلِفهِ وأخَذَتْ عيونً الناسِ تَنْتَقِلُ عنه إلى عمير بنِ سعدٍ حتى غَشِيَتْ(32) رسولَ اللّهِ صـلواتُ اللّه وسلامُه عليه السكينةُ، فعرَفَ الصحابةُ أنهُ الوَحيُ، فَلَزِموا أماكِنَهم وسَكَنَتْ جوارحُهم ولاذوا بالصَّمتِ(33) وتَعَلَّقَتْ أبصارُهم بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام.

وهنا ظَهَرَ الخَوفُ والوَجلُ على الجُلاس، وبَدَا التَّلَهُّفُ والتَّشَـوُّفُ (34) على عُمَيْرٍ . وظَلَّ الجميعْ كذلك حَتَّى سُرِّي(35) عن رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، فَتَلا قولَه جَلَّ وعَزَّ: { يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم } إلى قوله تعالى: { فإنْ يَتُوبوا يَكُ (36) خيراً لهم وإنْ يَتَولَّوا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أليماً }(37).

فارتَعَدَ الجُلاسُ من هَوْلِ ما سَمِعَ، وكادَ يَنْعَقِدُ لِسَانُه من الجزع، ثُمَّ التَفَتَ إلى رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  وقال: بل أتوبُ يا رسولَ الله ... بل أتوب...

صدق عميرٌ - يا رسول اللّه- كنتُ من الكاذبين.

اسْألِ اللّهَ أن يَقْبَلَ تَوْبَتِي، جُعِلْتُ فِدَاكَ يا رسولَ اللّهِ.

وهنا تَوجَّه الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى الفتى عمير بنِ سعدٍ ، فإذا دُمُوعُ الفَرَح تُبَلِّلُ وَجْهَهُ المشرِقَ بنورِ الإيمانَ.

فمدَّ الرسولُ يَدَه الشريفةَ إلى أذنه وأمسكَها بِرِفْق وقال: (وَفَّت أذُنُكَ- يا غلامً- ماسَمِعَتْ، وصَدَّقَكَ رَبُّك).

عاد الجُلاسُ إلى حَظِيرَةِ الإسلامِ وحَسُنَ إسلامُه.

وقد عَرَفَ الصحابةُ صلاحَ حالِه مِمَّا كان يُغْدِقه(38) على عميرٍ من بِرٍّ . وقد كان يقولُ كُلَّما ذُكِرَ عمير: جزاه اللّه عَنِّى خيراً، فقد أنقذقني من الكُفْرِ، وأعتَقَ رَقَبَتي من النار.

وبَعْدُ فليست هذهِ أوضأ(39) صورةٍ في حياةِ الغلامِ الصَّحابيِّ عُمَيرِ بنِ سَعْدٍ ، ولا أشدَّها تَألقا.

وإنَّما في حَيَاتِه من الصُّورِ ما هو أزْهَى وأجْمَلُ.

فإلى لقاءٍ آخرَ مَعَ عُميرِ بنِ سعدٍ في شبابه (*)

***

 

(2)

 

" لكم وددت أن لي رجالاً مثل

عمير بن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين ".

[ عمر بن الخطاب ]

 

وَقَفْنَا آنِفاً(40) على صورة فذَّةِ(41) وَضيئَةٍ من حياةِ الصحابيّ الجليلِ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ في صِغَرِه، فَتَعالَوا نَقِف الآن على عورة رائعة مشرقةٍ صِتْ حَيَاتِه في كِبَرِه، وسَتَجِدون أن الصورةَ الثانيةَ لن تقل عن الأولى جلالا وبهاءً.

***

كان أهلُ "حِمْصَ "(42) شديدي التذَمّرِ مِنْ وُلاتهم، كثيري الشَّكْوى منهم، فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً، وأحْصَوْا له ذُنُوباَ، و رَفَعوا أمْرَه إلى خليفةِ المسلمين، وتَمَنَّوا عليه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه.

فَعزَمَ الفاروقُ رِضْوانُ اللّهِ عليه أن يَبْعَثَ إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعناً ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزاً (43).

فَنَثَرَ كِنَانَةَ(44) رجاله بَيْنَ يَدَيْه، وعَجَمَ(45) عِيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عُمَيْرِ بن سعدِ.

وعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ عُمَيْراً كان إذ ذاك يَضْرِبُ(46) في أرضِ الجزيرَة مز، بلاد الشَّـامِ على رَأسِ جَيْشِه الغازي في سبيل اللّهِ، فَيُحرِّرُ المُدُنَ وَيَدُكُّ المعاقلَ (47)، ويُخْضِعُ القبائِلَ، ويُمغُ المساجِدَ في كلِّ أرْض وَطِئَتْها قَدَمَاه.

على الرَّغْمِ مِن ذلك فقد دعاه أميرُ المؤمنين وعَهِدَ إليه بولايةِ"حمص "، وأمَرَه بالتَّوَجُّهِ إليها، فاذْعَنَ للأمْرِ على كُرْهٍ مِنْه لأنه كانَ لا يًؤثِرُ (48) شيئاً على الجهاد في سبيلِ اللّهِ.

***

بَلَغ عُمَيْرٌ "حِمْصَ " فدعا النَّاسَ إلى صلاةٍ جامِعَةٍ .

ولما قُضِيَتِ الصَّلاةُ خَطَبَ النَّاسَ، فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه، وصلى على نَبِيِّه محمد ثم قال:

" أيها الناسُ، إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وباث وَثِيقٌ (49)، وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ.

فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ.

وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعاً ما اشْتَدَّ السُّلْطان.

ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضرباً بالسَّوْط(50) ولا خَملاً بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذاً بالحَقِّ ".

ثم انْصرَفَ إلى عَمَلِه لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرَةِ.

***

قَضَى عُمَيْرُ بن لسَعْدٍ حَوْلاً(51) كامِلاً في "حِمْصَ " لم يَكْتُبْ خِلاله لأمير المؤمنين كِتاباً، ولمْ يَبْعَثْ إلى بيتِ مالِ المُسْلمينَ من الفَيءِ(52) دِرْهماً ولا ديناراً، فأخَذَتِ الشُّكُوكُ تساور(53) عُمَرَ إذْ كانَ شديدَ الخَشْيَةِ على وُلاتِه من فِتْنَةِ الإمارَة، فلا مَعْصومَ عِنْدَهُ غَيْرُ رسولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم  .

فقال لِكَـاتِبِه: اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وقُلْ له: إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه، واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين.

***

تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ رضى اللّه عنـه وعن عمير، فأخَذَ جِرَابَ زاده(54) وَحَمَلَ على عاتِقِه(55) قَصعَتَه(56) ووعاءَ وضوئه، وأمْسَك، بيده حَرْبَتَه، وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه، وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا- مشياً على قَدَمَيه- إلى المدينة.

فما كادَ يَبْلُغ عمَيرٌ المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه، وهزُل جِسْمُه وطال شَعْرُه، وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ(57) السَّفَرِ.

***

دَخَلَ عُمَيْرٌ على أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطابِ، فَدُهِشَ الفاروق من حالَتِه وقال:

ما بكَ يا عُمَيْر؟!

فقال: ما بي من شيءٍ – يا أمير المؤمنين- فأنا صَحيحٌ مُعافًى- بحمد اللّه- أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها.

فقال: وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالاً لِبـيْتِ مالِ المُسْلِمين) .

فقال: معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي.

ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي.

ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي.

ثم إنَّ الدنيا كُلَّها- يا أميرَ المؤمنين- تَبَعٌ لمتاعي هذا، وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها.

فقال عمر: وهل جئت ماشياً؟!

قال: نعم يا أمير المؤمنين.

فقال: أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟

فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم.

فقال: وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟

فقال: لم آتِ بِشيءٍ .

فقال: ولم؟!

فقال: لما وَصَلْتُ إلى حِمْصَ؟ جَمعْتُ صلحاء أهلها، ووليتم جمْعَ فَيْئهم، فكانوا كُلما جمعوا شيئاً منه؟ استشَرْتُهم في أمره، ووضعته في مواضعه، وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم.

فقال عمر لكاتبه: جَدِّد عهداً لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص.

فقال عمير: هيهات(58) ... فإن ذلك شَيء لا أريده، ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين.

ثم استأذَنَهُ بالذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه، فأذنَ له.

***

لم يَمْضِ على ذهاب عُمَيْرٍ إلى قَرْيَته وقتٌ طويل حتى أراد عُمَرُ أنْ يَختَبِرَ صاحبه، وأن يَسْتَوثقَ من أمْرِه؟ فقال لواحدٍ من ثِقَاتِه يدعى الحارثَ:

انطلق يا حارثُ إلى عُمَيْرِ بنِ سعد، وانْزِل به كأنّكَ ضَيْف، فإن رَأيتَ عليه آثارَ نِعْمَةٍ ؟ فَعدْ كما أتيت.

وإن وَجدْتَ حالاً شديدَةً فأعطِه هذه الدنانير، وناوَله صُرِّة فيها مائة دينارٍ .

***

انطلق الحارثُ حتى بلغ قريةَ عُمَيْرِ بن سَعْدٍ ، فَسَأل عنه فَدُلَّ عليه.

فلمَّا لقيه قال: السلامُ عليك ورحمة الله.

فقال: وعليك السلامُ ورحمةُ اللّه وبرَكاته، من أين قَدمت؟

فقال: من المدينة.

فقال: كيفَ تَرَكتَ المسلمين؟

فقال: بِخَيْر.

فقال: كيف أميرُ المؤمِنين؟

فقال: صَحِيح صالِحٌ .

فقال: أليس يُقيمُ الحدود؟!

قال: بلى، ولَقَدْ ضَرَبَ ابناً له لِفاحِشَةٍ أتاها، فَماتَ من الضَّرب.

فقال: اللَّهمَّ أعِنْ عُمَرَ، فإني لا أعْلَمُه إلا شديدَ الحُبِّ لك.

***

أقام الحارِثُ في ضيافَةِ عُمَيْرِ بنِ سعدٍ ثلاثَ لَيال، فكانَ يُخْرِجُ له في كلِّ لَيْلَةٍ قُرْصاً من الشعير.

فَلَمَّا كانَ اليومُ الثالِثُ، قال للحارِثِ رَجُل من القوم: لقد أجْهَدْتَ(59) عُمَيْراً وأهله؟ فَلَيْسَ لهم إلا هذا القُرْصُ الذي يُؤثِرونك به(60) على أنفُسِهِمْ، وقد أضرَّ بهمُ الجوعُ والجَهْدُ، فإنْ رأيت أن تتحوَّلَ عَنْهُم إليَّ فافْعَلْ.

***

عند ذلكَ أخرَجَ الحارِثُ الدَّنانيَر، ودَفَعها إلى عمَيْر.

فقال عُمَيْر: ما هذه ؟!!

فقال الحارِثُ: بَعَثَ بِها إليكَ أميرُ المؤمنين.

فقال: رُدَّها إليه، واقْرَأ عليه السَّلامَ، وقُل له: لا حاجَةَ لِعُمَيْرٍ بها.

فصاحَتْ امرأته- وكانَتْ تَسْمَعُ ما يدور بينَ زَوجِها وضيفِه- وقالت: خُذْها- يا عُمَيْرُ- فإن احتَجْتَ إليها أنفقتَها، وإلا وضعْتَها في مَوَاضِعِها(61)، فالمحتَاجُون هنا كثير.

فلما سَمِعَ الحارِث قَوْلَها؟ ألْقَى الدَّنانيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْر وانْصرَف، فأخَذَها عمير وجَعَلَها في صُرَرٍ صغيرةٍ ولم يَبِتْ لَيْلَتَه تِلْكَ إلا بَعْدَ أن وزَّعها بَيْنَ ذوِي الحاجاتِ، وخَصَّ مِنْهُمْ أبناءَ الشُّهداءِ.

***

عاد الحارِثُ إلى المدينةِ فقال له عمرُ: ما رأيتَ يا حارِثُ؟

فقال: حالاً شديدَةً يا أميرَ المؤمنين.

فقال: أدَفَعْتَ إليه الدنانير؟

فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.

فقال: وما صَنَعَ بها؟!

فقال: لا أدْرِي، وما أظُنّه يُبْقى لنَفِسه مِنْها دِرهماً واحداً.

فكَتَبَ الفاروقُ إلى عُمَيْرٍ يقول: إذا جاءَكَ كتابي هذا فلا تَضَعْهُ من يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ علَّى.

***

توجَّه عميرُ بنُ سَعْدٍ إلى المدينة، ودَخَلَ على أميرِ المؤمنين، فَحَيَّاه عُمَرُ ورحَّبَ به وأدنى مَجْلِسَهُ(62) ثم قال له:

ما صَنَعْتَ بالدنانير يا عُمَير؟!

فقال: وما عليكَ مِنْها يا عُمَرُ بعد أنْ خَرَجتَ لي عنها؟!!

فقال: عَزَمْتُ عليك أنْ تُخْبِرَني بما صَنَعْتَ بها؟

فقال: ادَّخَرْتُها لِنَفْسي لأنتَفِعَ بها في يَوم لا يَنفَعُ فيه مالٌ ولا بَنون...

فَدَمَعَتْ عينا عُمَرَ، وقال:

أشْهَدُ انَكَ من الذين يؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصة(63) ثم أمرَ له بِوَسق(64) من طعام وثَوبين.

فقال: أمَّا الطعامُ فلا حاجَةَ لَنَا بهِ يا أميرَ المؤمنين، فَقَدْ تَرَكْتُ عندَ أهْلي صَاعَينِ من شَعيرٍ ، وإلى أنْ نأكُلهما يكون اللّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- قد جاءنا بالرزْقِ.

وأمَّا الثَّوْبان فآخُذُهما لأمِّ فُلانٍ (يعني زوجَتَه)، فقد بَلِىَ ثَوْبُها وكادَتْ تَعْرَى.

***

لم يمضِ طويلُ وَقتٍ على ذلك اللِّقاءِ بينَ الفاروقِ وصاحبِه حَتَّى أذِنَ اللّه لِعُمَيْرِ بن سعدٍ بأن يَلْحَقَ بِنَبِيِّه وقُرَّةِ عَيْنه محمدِ بنِ عبدِ اللّه بعد أن طالت أشْواقُه إلى لِقائِه.

 فَمَضَى عميرٌ في طريق الاَخرةِ وادِعَ النَّفْسِ، واثِقَ الخَطو، لا يُثْقِلُ كاهِلَهُ شَيء من أحمالِ الدُّنْيا، ولا يؤودُ(65) ظَهْرَه عِبء من أثْقَالها.

مَضَى لَيْسَ معه إلا نورُه وهداه، وَوَرَعُه وتقاه ...

فلما بلغ الفاروقَ نَعْيُهُ وَشَّحَ الحُزْنُ وَجهه، واعتَصرَ الأسى فؤاده وقال:

" وَدِدْتُ أنَّ لي رجالاً مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين ".

***

رضى اللّه عن عمير بن سعدِ وأرضاه...

فقد كان نمطاً فريداً بينَ الرِّجال...

وتلميذاً مُتَفَوقاً في مدرسةِ محمدِ بن عبد اللّه...

***

 
 

(*) للاستزادة من أخبار عمير بن سعد انظر:

1- ا لإصابة: (ا لترجمة) 6036.

2- الاستيعاب (على هاش الإصابة): 2/487.

3- أسد الغابة: 1/293.

4- سيرُ أعلام النبلاء: 1/86 وما بعدها.

5- حياة الصحابة (انظر الفهارس في الجزء الرابع)

6- قادة فتح العراق والجزيرة: 513 وما بعدها.

7- ا لأعلام: 5/ 264.

 

 


(1) الفاقة: الفقر.

(2) الأوس: قبيلة عظيمة من الأزد كانت تسكن المدينة وقد عاهدت الرسول صلوات الله عليه على حمايته.

(3) أمارات الفطنة: علامات الذكاء.

(4) السُمائل: الخصال والصفات.

(5) ألفى: وجد.

(6) اليافع: الغلام الذي قارب البلوغ.

(7) تبوك: موضع على حدود الشام وقعت فيه المعركة المعروفة بين المسلمين والروم.

(8) لبعد الشقة: لبعد المسافة.

(9) يأخذوا للأمر أهبته: يستعدوا للأمر.

(10) المنافقون: الذين يُبْطنون الكفر ويظهرون الإسلام.

(11) يثبطون العزآئم: يُضعفون العزائم.

(12) يوهنون الِهمَم: يضعفون الهمم.

(13) يغمزون الرسول: يذكرونه بسوء.

(14) فَيَدْمَغُهُم بالكفر دمغاً: يسِمُهًمْ بالكفرِ وَسْماً.

(15) الصور الفَذة: الصرر الرائعة الفريدَة.

(16) ا ليسار: الغِنى.

(17) الحميّة: الئخوة والمروعة.

(18) فتولوا: فرجعوا.

(19) اً طارت صواب الفتى: أذهلته وأطارت عقلَه.

(20) شده: دُهِش وتحير.

(21) تند: تشرُدُ.

(22) يأتمرون به: يحدث بعضهم بعضاً بإيذائه.

(23) آثرُ الناس عندي: أحبُّ الناس وأقربهم إليَّ.

(24) أجَلُّهُم يداً: اً عظمهم نعمة علي.

(25) صَفْحَة الوجه: ما ببدر منه للناظر.

(26) يكنه صدراهما: يخفيه صدراهما.

(27) في قلوبهم مرض: في قلوبهم شِبْهَةُ نفاق.

(28) قسمات وجهه: ملامح وجهه.

(29) احتقن بالدَّم: تجمع الدم فيه.

(30) انبرى: بَرزَ واندفع.

(31) تحالفنا: حَلَفَ كل منا على صحة كلامه.

(32) كما غشيته السكينة: نزلت عليه وغطَّته.

(33) لاذوا بالصمت: التزموا الصمت وانقطعوا عنِ الكلام.

(34) التَشَوُّف: التَطلع.

(35) سرى عن الرسول: زال عنه أثر الوحي.

(36) يك: أصفها يكن حذفت نونها تخفيفاً.

(37) سورة التوبة الآية 74

(38) يغدقه: يعطيه بسحاء.

(39) أوضأ: اكثر وضاءة وإشراقاً.

(40) آنفاً: قريباً.

(41) فذاً: فريد اً.

(42) حمص مدينة في أواسط سورية بين دمشق وحلب وفيها خالد بن الوليد رضي الله عنه.

(43) مغْمزاً: عيباً.

(44) الكنانة: الجعبة التي توضع فيه السهام.

(45) عجم عيدانها: اختبرها وفي الكلام تشبيه للرجال بالمهام.

(46) يَضرب: يسير غازياً.

(47) ا لمعاقل: ا لحصون.

(48) لا يؤثر: لا يفضل.

(49) وثيق: متين.

(50) السوط: جلد مضفور يفرض به.

(51) حولاً: عاماً.

(52) الفيء: الخراب.

(53) تُساورُ عمر: تدور في نفس عمر.

(54) جراب زاده: كيف طعامه.

(55)  العاتق: ا لكتف.

(56) القصعة: وعاء يؤكل به.

(57) وعثاء السفر: آثار مشقة السفر.

(58) هيهْات: كلمة تقال عند استبعاد أمْرٍ ما.

(59) أجهدتَ عميراً: عنيته وألحقت به الضرر.

(60) يؤثرونك: يفضلونك.

(61) وضعتها في مواضعها: أنفقتها في طرقها.

(62) أدنى مجلسه: قربه إليه دلالة على الإكرام.

(63) الخصاصة: الحاجة.

(64) الوسق: ستون وهى تقدر بحمل بعير.

(65) يؤود ظَفرَه: يثقل ظَفرَه ويتعبهُ .

top معاذ بن جبل

معاذ بن جبل

 

 

" أعلم أمتي بالحلال والحرام

معاذ بن جبل "

[ محمد رسول الله ]

 
 

لما أشْرَقَتْ جزيرةُ العَرَبِ بنورِ الُهدَى والحقِّ، كان الغلامُ اليَثْرِبيُّ(1) مُعَاذُ بن جَبَل فتًى يافِعاً.

وكان يَمْتَازُ من أترَابِهِ بِحِدَّةِ الذَّكاءِ، وقُوَّةِ العارِضَةِ(2)، ورَوْعَةِ البَيَانِ، وعُلُوِّ الِهمَّةِ.

وكان إلى ذلك، قسيما وسيما(3) أكْحَلَ العينِ جَعْدَ الشعر بَرَّاق الثنايا، يَمْلأ عين مجتَليه(4) ويملكُ عليه فؤاده.

أسْلَمَ الفَتَى مُعَاذُ بنُ جَبَل على يَدَي الدَّاعيةِ الَمكِّيِّ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ . وفي ليلةِ العَقَبَةِ امتدَّت يَدُه الفَتِيةُ فصافَحَتْ يَدَ النبي الكريم وبايعَتْهُ...

فَقَدْ كانَ مُعاذٌ مَعَ الرَّهْط الاثنينِ والسَّبعين الذين قَصَدُوا مَكَّةَ، لِيَسْعَدوا بِلقَاءِ رسـولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، ويَشْـرُفوا ببيْعَتِـهِ، ولِيَخُطُّوا في سِفْر التاريخ أرْوَعَ صَفْحَةٍ وأزْهاها…

***

وما إن عادَ الفَتَى من مَكّـةَ إلى المدينةِ حَتَّى كَوَّنَ هو ونَفَر صَغيرٌ من لِدَاتِه جماعَةً لِكَسْرِ الأوْثانِ، وانْتِزاعِها من بُيُوتِ المُشْركينَ في يَثْرِبَ في السرِّ أو في العَلنِ. وكان من أثرِ حَرَكَةِ هؤلاء الفتيانِ الصغارِ أنْ أسْلَمَ رَجُل كبيرٌ من رجالاتِ يَثْرِبَ، هو عمرو بنُ الجموح(5).

***

كان عمرو بنُ الجَموح سَيِّداً من ساداتِ بني سَلَمَةَ، وشريفاً من أشرافِهِم.

وكان قد اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ صَنَماً من نفيسِ الخَشَبِ كما كان يَصْنَعُ الأشْرافُ.

وكان شَيْخُ بني سَـلَمَةَ يُعْنَى بصَنَمهِ هذا أشدَّ العِنَايَةِ فيُجلِّله بالحريرِ، ويُضَمِّخُه(6) كلَّ صَباح بالطِّيب.

فقام الفِتْيانُ الصِّغارُ إلى صَنَمِهِ تَحْتَ جُنْح الظَّلامِ وحَمَلوه مِنْ مَكَانِه، وخَرَجوا بهِ إلى خَلْفِ منـازِلَ بني سَـلَمَةَ، وألقوه في حُفْرَةٍ كانَت تُجْمَعُ فيها ا لأقذار…

فلمَّا أصبَحَ الشَّيْخُ افتَقَدَ صَنَمَهُ فلم يجِدْه، وَبَحثَ عَنْه في كُلِّ مكانٍ حَتى ألْفاهُ مُكِبّاً على وَجْهِهِ في الحُفْرَة غارِقاً في الأقذارِ فقال: وَيْلَكُمْ من عَدا على إلِهنا في هذه اللّيْلَةِ؟!

ثم أخْرَجَهُ وغَسَله، وطَهَّرَه، وطيّبهُ، وأعادَه إلى مكانهِ، وقال له:

أي "مناةُ"(7)، واللّهِ لو أني أعلَمُ من صَنَعَ بِكَ هذا لأخْزَيتُه...

فلمَّا أمْسَى الشيخُ ونامَ تسلل الفِتْيَةُ إلى صنمِه وفعلوا به ما فعلوه في اللَّيْلَةِ السَّابقةِ...

فما زالَ يبحثُ عَنْهُ حَتَّى وَجَدَه في حُفْرَةٍ أخْرَى من تِلْكَ الحُفَر...

فأخْرَجَه وغَسَلَه وطَهَّرَه وعَطَّرَه وتَوَعَّدَ(8) من عَدَوْا عليه أشَدَّ الوعيد...

فلمَّا تكرَّر ذلك مِنْهُمْ استَخْرجَه من حَيْثُ ألقَوْه، وغَسَلَه...

ثمَّ جاء بِسيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عليه وقال يخاطِبُه:

واللّهِ إني ما أعلمُ من يَفْعَلُ بِكَ هذا الذي تَراه...

فإن كان فيك خيرٌ – يا منـاةُ- فادْفَعْ عن نَفْسِك… وهذا السَّيْفُ مَعَك …

فلمَّا أمسى الشَّيخُ ونام، عَدَا الفتْيَةُ على الصَّنَمِ، وأخذا، السَّيْفَ الُمعَلّقَ في رَقَبَتِهِ…

وربطوه بِعُنُقِ كَلْبٍ مَيِّتٍ وألقَوْهما في حُفْرَةٍ من تِلْكَ الحفَرِ، فَلَمَّا أصْبحَ الشيخُ جَدَّ في طلبِ صَنَمِهِ حتى وَجَدَه مُلْقىً بين الأقْذَارِ مقروناً بكلبٍ مَيتٍ مُنَكَّساً على وجهه.

عِنْدَ ذلك نَظَرَ إليه وقال:

تا للّهِ لو كُنْتَ إلهاً لم تَكُنْ          أنتَ وكَلْبٌ وسْطَ بِئرٍ في قَرَنْ(9).

ثم أسلم شيخُ بنى سلَمةَ وحَسن إسلامه.

***

ولما قَدِمَ الرسولُ الكريمُ على المدينةِ مهاجراً، لَزِمَهُ الفَتَى معاذ بنُ جَبل مُلازَمَةَ الظلِّ لِصَاحِبِه، فأخَذَ عنه القُرَانَ، وتَلَقَّى عليه شرائعَ الإسْلام، حَتَّى غَدا من أقرأ الصَّحابةِ لِكِتابِ اللّهِ، وأعْلَمِهم بِشَرْعِه...

حَدَّثَ يَزِيدُ بنُ قُطَيْبٍ قال: دَخَلْتُ مَسْجِدَ حمصَ فإذا أنا بِفَتًى جَعْدِ الشَّعْرِ(10)، قد اجتَمَعَ حَوْلَه النَّاس.

فإذا تكلَّمَ كأنَّما يَخْرُجُ من فيه نورً ولُؤلُؤ، فقلتُ: من هذا؟!

فقالوا: معاذُ بن جبل.

***

وروى أبو مسلم الخوْلانيّ(11) قال: أتيْتُ مسجِدَ دِمَشْقَ، فإذا حَلْقَةٌ (12) فيها كهول من أصْحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

  وإذا شاب فيهم أكْحَلُ العَيْنِ بَرَاقُ الثنايا، كُلَّما اخْتَلَفُوا في شيءٍ ردُوه إلى الفَتَى؟ فقلت لِجَليس لي:

من هذا؟!

فقال: معاذ بن جبل.

***

ولا غَرْوَ(13) فمعاذٌ رُبّيَ في مَدْرَسةِ الرسولِ صلواتُ اللّهِ وسلامُه مُنْذُ نعومَةِ الأظْفارِ(14) وتَخَرَّجِ على يديه فنهل العلمَ من ينابيعه الغزيرة.

وأخَذَ المَعْرِفةَ مِنْ مَعِينها الأصيل، فكان خيرَ تِلْميذٍ لخير مُعَلِّم.

وحَسْبُ(15) معاذٍ شهادَةً أن يقولَ عنه الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه:

"أعْلَمُ أمَّتي بالحَلالَ والحَرَامَ مُعاذُ بنُ جَبَل "؛ وحَسْبُه فضلاً عَلَى أمَّةِ مُحَمدٍ أنه كان أحَدَ النَّفَرِ الستَّةِ الذين جَمَعُوا القرَانَ عَلَى عَهْدِ رسول اللّهِ صَلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه.

ولذا كان أصْحابُ الرَّسولِ إذا تَحَدَّثوا وفيهم مُعَاذُ بنُ جَبَل نَظَروا إليهِ هَيْبَةً له وتَعْظيما لِعِلْمِهِ.

***

وقد وَضَعَ الرَّسولُ الكريمُ وصاحباه من بَعْدِه هذه الطَّاقَةَ العلميةَ الفريدَةَ في خِدْمةِ الإسلام والمسلمين.

فهذا هُوَ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يَرَى جُموعَ قُرَيْش تَدْخُل في دينِ اللّهِ أفواجاً، بعد فتع مَكَّةَ.

ويَشْعُرُ بِحاجَةِ المسْلمينَ الجُدُدِ إلى مُعَلِّم كبيرٍ يُعَلِّمُهُمُ الإسلامَ، ويُفَقِّهُهُم بِشَرائِعِه، فَيَعْهَدُ بِخِلافتهِ على مَكَّةَ لِعَتَّابِ بن أسيدٍ ، ويَسْتَبْقي مَعَهُ مَعَاذَ بنَ جَبَل لِيُعَلِّمَ النَّاسَ القرَانَ ويفقِّهَهُمْ في دينِ اللّهِ.

***

ولَمَّا جاءَتْ رُسُلُ ملوكِ اليَمَنِ إلى رسولِ اللّهِ صَلَوَاتُ اللّهِ عليه، تُعْلِن إسْلامَها وإسْلامَ مَن وراءَها، وتَسْألُه أنْ يَبْعَثَ مَعَها من يُعَلّمُ الناسَ دينهم انتدَبَ لهذه الُمهِمَّةِ نَفَراً من الدُّعاةِ الهداةِ من أصْحابه وأمَّرَ عليهم مُعاذَ بنَ جَبَل رَضِيَ اللّهُ عَنْه.

وقدْ خَرَجَ النبيُّ الكريمُ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه يودِّعُ بَعْثَةَ الُهدَى والنور هذه...

وطَفِقَ يَمشي تَحْتَ راحِلَةِ مُعاذٍ ... ومُعاذ راكِب...

وأطالَ الرَّسولُ الكريمُ مَشْيَه مَعَه، حَتَّى لكـأنَّه كان يريدُ أنْ يَتَمَلَّى من معاذ...

ثم أوصاه وقال له:

يا مُعاذ إنَّكَ عَسَى ألا تَلْقاني بَعْدَ عامِي هذا...

ولعلَّكَ أنْ تَمُرَّ بِمَسْجدي وقَبْري...

فَبَكَى معاذٌ جَزَعاً لِفراق نَبِيِّه وحَبيبِه محمدٍ صَلَواتُ اللّهِ عليه، وبَكَى مَعَهُ المسلمون.

***

وصَدَقت نُبُوءَةُ الرسولِ الكريمِ فما اكتحَلَتْ عَيْنا مُعَاذٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بِرُؤيَةِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ بَعْدَ تلكَ السَّاعةِ.

فَقَدْ فارَقَ الرسولُ الكريمُ الحياةَ قَبْلَ أنْ يعودَ مُعاذٌ مِنَ اليَمَنِ.

ولا ريبَ في أنَّ مُعَاذاً بَكَى لَمَّا عادَ إلى يَثْربَ فألفاها(16) قد أقْفَرَتْ من أنْس حبيبه رسولِ اللّهِ.

***

ولَمَّا وَليَ الخِلافَةَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِىَ اللّهُ عنه؛ أرْسَلَ مُعاذاً إلى بني كِلابٍ ليقسم فيهم أعْطَياتِهم، ويُوَزِّعَ على فقرائِهِم صَدَقاتِ أغنيائِهم، فقام بما عُهِدَ إليه من أمرٍ وعاد إلى زوجه بِحِلْسِهِ(17) الذي خَرَجَ به يَلفه على رَقَبَتِهِ، فقالت له امرأته:

أين ما جئْتَ بِهِ مِمَّا يأتي به الوُلاةُ من هَدِيَّةٍ لأهليهم؟!

فقال: لَقدْ كان مَعي رَقيبٌ يَقِظ يُحْصى عَلَىَّ(18)، فقالت:

قد كنت أميناً عِنْدَ رَسولِ اللّهِ، وأبى بكرٍ ، ثم جاء عمرُ فَبَعَثَ مَعَكَ رَقيباً يُحْصى عليك؟!!

وأشاعت ذلك في نِسْوةِ عُمَرَ، واشْتَكَتْه لَهُنَّ...

فَبَلَغ ذلك عُمَرَ؟ فَدَعا مُعاذاً وقال: أأنا بَعَثْتُ مَعَكَ رقيباً يُحْصِي عليك؟!

فقال: لا يا أمير المؤمنين، ولكِنَّني لم أجِدْ شيئاً أعْتَذِرُ بهِ إليها إلا ذِلك...

فَضَحِكَ عمرُ رضْوانُ اللّهِ عليه، وأعْطاه شيئاً وقال له:

أرضِها به...

 ***

وفي أيام الفاروق أرْسَلَ إليه واليه على الشَّامِ يزيدُ بن أبى سُفْيَانَ يقول:

يا أمرَ المؤمنين، إن أهلَ الشَّامِ قد كَثرُوا وملؤوا المَدَائِنَ، واحْتَاجُوا إلى من يُعَلِّمُهُمْ القُرَانَ ويفقِّهُهُمْ بالدِّينِ فاعِنِّي يا أميرَ المُؤمنينَ بِرِجال يُعَلِّمونَهُمْ؟ فَدَعا عمر النَّفرَ الخَمْسَةَ الذينَ جَمَعوا القرَانَ في زَمَنِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام.

وهم: معاذ بنُ جَبَل وعُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وأبو أيوبَ الأنصاريُّ(19) وأبُيّ بنُ كعبٍ وأبو الدَّرداءِ(20) وقال لهم:

إنَّ إخْوانَكُمْ من أهل الشَّامِ قد اسْتَعَانُوني بِمَنْ يُعَلِّمُهُم القرانَ ويفقهُهُمْ في الدِّينِ فأعينوني- رَحِمَكُم اللّهُ- بثلاثةٍ منكم؟ فإنْ أحْبَبْتُم فاقْتَرِعوا وإلا انْتَدَبْتُ ثلاَثةً منكم.

فقالوا: ولِمَ نَقْتَرِعُ؟

فأبو أيوبَ شيخٌ كبيرٌ ، وأبيٌّ رَجُلٌ مَرِيضٌ ، وبَقينا نحنُ الثلاثة، فقال عمر:

ابِدَؤوا بِحِمْصَ فإذا رضيتُمْ حالَ أهْلِها؛ فَخَلِّفوا أحَدَكُمْ فيها وَلْيَخُرجْ واحِد مِنْكُمْ إلى دِمَشْقَ، والآخرُ إلى فِلسْطينَ.

فقام أصحابُ رسولِ اللّهِ الثلاثةُ بما أمَرَهُم به الفاروقُ في حِمْصَ...

ثم تركوا فيها عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ، وذَهَبَ أبو الدَّرداءِ إلى دِمشقَ ومَضَى معاذ بنُ جَبَل إلى فِلسْطينَ.

***

وهناك أصيبَ معاذ بالوَباءِ.

فلما حَضَرَتْه الوفاةُ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وجَعَلَ يردِّدُ هذا النشيد:

مَرْحباً بالموتِ مرحباً...

زائِرٌ جاءَ بَعْدَ غِياب...

وحبيب وَفَدَ على شَوْقِ...

ثم جَعَلَ ينظر إلى السماء ويقول:

اللهمَّ إنَّكَ كنتَ تَعْلَمُ أني لم أكُنْ أحِبُّ الدُّنيا وطولَ البَقَاءِ فيها لغرْسِ الأشجارِ، وجَرْيِ الأنهارِ...

ولكِنْ لظَمَأ الهواجِرَ، ومكابَدَةِ السَّـاعات، ومزَاحَمَة العلماءِ بالرُّكَبِ عند حِلَقَ الذكر…

اللَّهُمَّ فَتَقَبَّل نَفسي بِخَيْرِ ما تَتَقَبَّلُ به نَفْساً مُؤمِنَةٍ.

ثم فاضتْ روحه الطَّاهرةُ بعيداً عن الأهل والعشير داعِياً إلى اللّهِ، مهاجراً في سبيله. (*)

***

 

 

(*) للاستزادة من أخبار معاذ بن جبل انظر:

1- الإصابة: 3/406.

2- الاستيعاب: (تحقيق البجاوي): 3/1402.

3- أسد الغابة: 4/374.

4- سير أعلام النبلاء: 1/318.

5- الطبقات الكبرى: 3/583.

6- حلية الأولياء: 1/228.

7- صفة الصفوة: 1/195.

8- تهذيب الأسماء واللغات: 2/98.

9- تاريخ الإسلام للذهبي: 2/34.

10- الجمع بين رجال الصحيحين: 2/487.

11- سير أعلام النبلاء: 1/318.

12- البداية والنهاية: 7/ 94.

13- دول الإسلام: 1/5.

14- تهذيب التهذيب: 10/186.

5 ا- وفيات الأعيان.

6 ا- جمهرة الأولياء: 2/48.

17- طبقات فقهاء اليمن: 44.

18- الجمع بين رجال الصحيحين.

19- البدء والتاريخ: 5/117.

20- الزهد لأحمد بن حنبل: 180.

21- تذكرة الحفاظ: 1/19.

22- المعارف لابن قتيبة: 1/111.

23- أصحاب بدر (منظومة للشيخ حسين الغلامى): 204.

24- حياة الصحابة (انظر الفهارس في الرابع ).

 

 


(1) اليَثْرِبي: نسبة إلى يثرب، وهي المدينة المنورة.

(2) قوَّة العارضة: قوة البديهة وروعة البيان.

(3) قسيما وسيما: بهي الطلعة جميل الملامح.

(4) مجْتَلِيه: الناظر إليه.

(5) انظر سهرته ص 79.

(6) يُضَمِّخُه: يَدْهنه ويطيّبه.

(7) أي مناة: يا مناة، وهو اسم صَنَمِه.

(8) تَوَعّده: أنذره بالشَّر.

(9) في قَرَن: أي مربوطاً معه في حبل واحد.

(10) جَعْدُ الشعر: ذو شعر أجعد وضده: سبط الشعر.

(11) أبو مسلم الخولاني أحد كبار التابعين وهو من اليمن.

(12) الحلقة: مجلس العلم، وكانوا يتحلَّقون في هذه المجالس حول الشيخ.

(13) ولا غرو: لا عَجَب.

(14) نعومة الأظفار: كناية عن صغر السِّنِّ لأن الصغير تكون أظفاره ناعمة.

(15) حسْبُ معاذ شهادة: يكفيه شهادة.

(16) فألفاها: فَوَجَدَها.

(17) الحلسُ: ما يوضع على ظَهْر الدابَّةَ تحت السرج.

(18) يريد بالرقيب اللّه جَلَّ وعَزَّ على سبيل التورية.

(19) انظر سيرته ص 209.

(20) انظر سيرته ص 69.