زَيْد بن ثابت

" فمن للقوافي بعد حسان وابنِه        

ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت"

[ حسّان بن ثابت ]

 

نحن في السنةِ الثانيةِ للهِجْرَةِ.

ومدينةُ رسولِ اللّه صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه يموجُ بعضُها يَوْمَئِذٍ في بعض(1) استعداداً لبدر.

والنبيُّ الكريمُ يُلْقي النظراتِ الأخيرةَ على أوَّلِ جيش يَتَحَرَّكُ تَحْتَ قيادَتِه للجهادِ في سبيلِ اللّه وتَثْبيتِ كلمتِه في الأرضِ.

وهنا أقبلَ على الصفوفِ غلامٌ صغيرٌ لم يتمَّ الثالثَةَ عشْرَةَ من عمره، يَتَوَهجُ ذكاءً وفطنةً...

ويتألق نجابةً (2) وحَميةَ...

وفي يدِه سيفٌ يسـاويه في الطول أو يزيدُ عنه قليلاً، ودنا من رسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه وقال:

جُعِلتُ فداكَ يا رسولَ اللّه، ائذَنْ لي أنْ أكونَ مَعَكَ وأجاهِدَ أعداءَ اللّهِ تحتَ رايتكَ.

فنظرَ إليه الرسولُ الكريم نظرةَ سرورٍ وإعجاب، ورَبَّتَ(3) على كتفه بِرِفْق وودّ، وطيَّبَ خاطِرَه، وصَرَفَه لصِغرِ سِنِّه.

***

عادَ الغلامُ الصَّغيرُ يُجَرْجِرُ سيفَه على الأرضِ أسوانَ(4) حزيناً، لأنه حُرِمَ من شَرف صًحْبَةِ رسولِ اللّه في أولِ غزوةٍ يغزوها.

وعادَت من ورائِه أمُّه النَّوارُ بنتُ مالكٍ وهى لا تقِلُّ عنه أسىً وحزناً.

فقد كانت تتمنَّى أن تكْتَحِلَ عيناها برؤيةِ غلامِها، وهو يَمْضى معَ الرِّجالِ مجاهداً تحتَ رايةِ رسولِ اللّهِ.

وكانت تَأمُلُ في أن يَحْتَلَّ المكانَةَ التي كان من المُنْتَظَرِ أنْ يَحظى بها أبوه لدى الرسولِ لو أنه ظلَّ على قيدِ الحياة.

***

لكنَّ الغلامَ الأنصارِيّ حين وجد أنَه قد أخفق(5) في أنْ يَحْظَى بالتَّقَرُّبِ إلى رسولِ اللّهِ في هذا المجالِ لِصغرِ سِنِّه، تَفَتَّقَتْ فِطْنَتُه عن مجال آخَرَ- لا علاقَةَ له بالسن- يُقَرِّبُه من النبيِّ صلواتُ اللّهِ عليه ويُدنْيه إليه.

ذلك المجالُ هو مجالُ العلمِ والحِفْظ...

فَذَكَرَ الغُلامُ الفِكْرَةَ لأمِّه فهَشتْ لها وبَشّتْ(6) ونَشِطَتْ لِتَحقيقِها.

***

حَدَّثَتِ النوارُ رجالاً من قومِهم برَغْبَةِ الغلام؛ وذَكَرَتْ لَهُم فِكْرَتَهُ…

فَمَضَوْا به إلى رسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه وقالوا:

يا نَبِيَّ اللّهِ، هذا ابْنُنَا زيدُ بنُ ثابتٍ يَحْفَظُ سبعَ عشرةَ سورةً من كتابِ اللّهِ، ويَتْلوها صحيحةً؟ كما نزِلَتْ على قلبك.

وهو فوقَ ذلك حاذِق يجيدُ الكِتابَةَ والقراءةَ. وهو يريدُ أنْ يَتَقَرَّبَ بذلك إليك وأنْ يَلْزَمَكَ. فاسمع منه إذا شِئْتَ.

***

سَمِعَ الرسولُ الكريمُ من الغلام زيدِ بنِ ثابتٍ بعضاً مما يَحْفَظُ، فإذا هو مُشْرِق(7) الأداءِ، مُبينُ(8) النُّطقِ...

تَتَلألأ كلماتُ القرَانِ على شفتيه كما تَتَلألأ الكواكبُ على صَفَحَةِ السماء...

ثم إن تلاوتَهُ تَنُمّ على تَأثرٍ بما يتلو...

وَوَقَفاتُه تَدُلُّ على وَعْي لما يقرأ وحُسْن فهم...

فسُرَّ به الرسولُ الكريمُ إذْ وَجَدَه فوقَ ما وصفوه، وزادَه سروراً به إتقانُه لِلكتابة.

فالتَفَتَ إليه النبيُّ الكريمُ وقال: يا زيدُ، تَعَلَّمْ لي كتَابَةَ اليهودِ(9)، فإني لا آمَنُهم على ما أقول.

فقال: لبيكَ(10) يا رسولَ اللّهِ.

واكبَّ (11) من تَوِّه،(12) على العِبرِيَّة حتى حَذَقَها(13) في وقتٍ يَسـير، وجعل يَكْتُبُها لرسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه، إذا أراد أن يكتبَ لليهودِ، ويقرؤها له إذا هُمْ كتبوا إليه.

ثم تَعَلَّمَ السُّرْيانِيَّة(14) بأمرٍ منه- عليه الصلاةُ والسلامُ-كما تعلم العبرية.

فأصبح الفَتَى زيدُ بنُ ثابتٍ تَرْجُمانَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  .

***

ولما استوثق(15) النبيُّ صلواتُ اللّهِ عليه من رصانةِ زيدٍ وأمانتِهِ، ودِقَّتِهِ وفهمِهِ، ائتمَنَهُ على رسالةِ السماء إلى الأرض، فجعله كاتباً لِوَحْيِ اللّه...

فكـان إذا نَزَلَ شيء من القرآنِ على قلبهِ، بَعَثَ إليه يدعوه وقال: اكتب يا زيدُ، فيكتبُ.

فإذا بِزَيْدِ بنِ ثابتٍ يَتَلَقَّى القرَآنَ عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  ، آناً(16) فآناً فينمو مع آياته...

ويأخذهُ رَطْباً طرِيّاً من فمِهِ مَوْصولاً بأسْباب نُزولِه، فَتُشْرِق في نفسُه بأنوارِ هِدَايتهِ...

ويستنيرُ عَقْلُهُ بِأسْرَارِ شريعَتِهِ...

وإذا بالفتى المحظوظِ يَتَخَصَّصُ بالقرَان، ويغدو المَرْجِعَ الأوَّلَ فيه لأمَّةِ محمدٍ بعد وفاةِ الرسولِ صلواتُ اللّه وسلامه عليه.

فكان رَأسَ من جمعوا كتابَ اللّهِ في عَهْدِ الصِّدِّيقِ.

وطليعةَ من وجَّدُوا مَصَاحِفَهُ في زَمَن عثمان.

أفَبَعْدَ هذه المنزِلَةِ منزلة تسمو إليها الهمَمُ؟!

وهَلْ فوقَ هذا المَجْدِ مجدٌ تَطْمَحُ إليه النفوسُ؟!

***

وقد كان من فضلِ القرَانِ على زيدِ بن ثابتٍ أن أنارَ له سُبُلَ الصَّوابِ في المواقف التي يَحَارُ فيها أولو الألْبَاب(17) ففي يوم السَّقيفَةِ(18) اخْتَلَفَ المسلمونَ فيمن يَخْلُفُ رسولَ اللّهِ صلوات اللّه عليه:

فقال المهاجرون:

فينا خِلافَةُ رسولِ اللّهِ ونحنُ بها أوْلَى.

وقال بعضُ الأنصار: بل تكونُ الخلافةُ فينا ونحنُ بها أجدرُ.

وقال بعضهم الآخرُ:

بل تكونُ الخِلافَةُ فينا وفيكم معاً...

فقد كان رسولُ اللّه صلواتُ اللّه عليه وسلامُه إذا اسْتَعْمَلَ واحداً مِنْكُمْ على عَمَل قَرَنَ معه(19) واحداً منا.

وكادت تَحْدُثُ الفِتْنَةُ الكُبْرَى، ونبيُّ اللّهِ ما زالَ مُسَجّىً بين ظهرانيهم(20) لم يُدْفَنْ بَعْدُ.

وكان لابُدَّ من كلمةٍ حاسِمَةٍ حازِمَةٍ رَشيدةٍ مُشرِقَةٍ بِهَدْيِ القرَانِ تَئِدُ الفتنةَ في مَهْدِها(21)، وتنيرُ للحائرين الطريقَ.

فانطلقت هذه الكلمةُ من فَم زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ.

إذ التفتَ إلى قَوْمِه وقال: يا معشَرَ الأنصار: إنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  كان من المهاجرين، فيكونُ خليفتُه مهاجِراً مثلَه.

وإنَّا كنا أنصارَ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم  ، فنكونُ أنصاراً لخليفتهِ من بعدِه وأعواناً له على الحَقَ.

ثم بَسَطَ(22) يَدَه إلى أبي بكر الصدِّيق وقال: هذا خليفتُكُم فبايِعوه.

***

وقد غدا زيدُ بنُ ثابتٍ بفضـلِ القرآنِ وتفقُّهِهِ فيه وطولِ ملازَمَتِهِ لرسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  منارَةً(23) للمسلمين: يستشيره خلفاؤهم في المُعْضِلاتِ(24)، ويَسْتَفْتِيهِ عامَّتُهم في المشْكِلات، ويرجعون إليه في المواريث خاصَّة، إذْ لم يكن بينَ المسلمين – إذْ ذاك- من هو أعلمُ منه بأحكامها وأحْذَقُ منه في قِسْمَتِها؛ فقد خَطَبَ عمرُ رضوانً اللّهِ عليه في المسلمينَ يومَ الجابيةِ(25) فقال:

أيها الناس، من أراد أن يَسْألَ عن القرآنِ فَلْيَأتِ زيدَ بنَ ثابتٍ ...

ومن أراد أن يَسْألَ عن الفِقْهِ فَلْيَأتِ معاذَ بنَ جبل.

ومن أراد أن يسأل عن المالِ فليأتِ إليَّ، فإنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ جَعَلني عليه والياً، وله قاسِماً...

***

ولقد عَرَفَ طلابُ العِلْم من الصحـابَةِ والتابعين لِزيْدِ بنِ ثابتٍ قَدْرَه، فاجَلُّوه، وعَظَّمُوه لما وَقَرَ(26) في صَدْرِه من العلم.

فها هو بَحْرُ العِلْمِ عبدُ اللّه بنُ عَبَّاس(27) يَرَى زيدَ بنَ ثابتٍ قد هَمَّ بركوب دابَّتِهِ، فَيَقِفُ بينَ يديه، ويُمْسِكُ له بركابِهِ، ويأخذ بزِمامِ دابَّتِهِ.

فقال له زيدُ بنُ ثَابت: دَعْ عنك يا ابنَ عَمِّ رسولِ اللّهِ.

فقال ابنُ عَبَّاس: هكذا أمِرْنا أن نَفْعَلَ بعلمائِنا...

فقال له زيد: أرني يَدَك.

فأخرج ابنُ عباس يَدَه له، فمال عليها زيدٌ وقَبَّلها وقال:

هكذا أمِرْنا أن نَفْعَلَ بآل بَيْتِ نَبيِّنا...

***

ولَمَّا لحق زيدُ بنُ ثابتٍ بجوارِ رِّبهِ؛ بكَى المسلمون بمَوْتِه العِلْمَ الذي وُورِيَ معه(28)، فقال أبو هريرة:

اليومَ ماتَ حَبْرُ(29) هذه الأمَّةِ، وعسى أنْ يجعلَ اللّهُ في ابنِ عباس خَلَفَاً منه.

ورثاه شاعِرُ رسولِ اللّهِ حسانُ بنُ ثابتٍ وَرَثى نَفْسَهُ معه فقال:

فَمَنْ لِلقَوافي بَعْدَ حَسَّانَ وابنِهِ         ومَنْ للمعاني بَعْدَ زيدِ بنِ ثابتِ؟! (*)

***

 
 

(*) للاستزادة من أخبار زيد بن ثابت انظر:

ا- الإصابة: الترجمة 2880.

2- الاستيعاب بهامش الإصابة: 1/ 551.

3- غاية النهاية: 1/ 296.

4- صفة الصفوة: 1/249 طبعة الهند.

5- أسد الغابة: الترجمة 1824.

6- تهذيب التهذيب: 3/399.

7- تقريب التهذيب: 1/272.

8- الطبقات لابن سعد: انظر الفهارس.

9- المعارف: 260.

10- حياة الصحابة: انظر الفهارس.

11- السيرة لابن هشام: انظر الفهارس.

12- تاريخ الطبري: انظر الفهارس.

13- أخبار القضاة لوكيع: 1/107-110

 

 

 

 


(1) يموج بعضها في بعض: يزدحم فيها الناس.

(2) نجابة: ذكاءً وفِطْنَة.

(3) ربتَ على كتفه: ضرب يجده عل كتفه بلين.

(4) أسوان: شديد الأسى والحزن.

(5) أخفق: لم ينجح.

(6) هشت وبشت: سرّت وفَرِحَت.

(7) مشْرِق الأداء: بديع الإلقاءِ وَضاء التلاوة.

(8) مبين النطق: فصيح النطق.

(9) كتابة اليهود: المبرية.

(10) لبيك: سمعاً وطاعة وإجابة لأمرك.

(11) أكب على العبرية: عكف على تعلم العبرية.

(12) من توه: فوراً.

(13) حذقها: أتقنها.

(14) السريانية: إحدى اللغات السامية وكانت منتشرة ببن طوائف من الناس.

(15) استوثق: تأكَّد واطمأن.

(16) آناً فآناً: شيئاً فشيئاً ووقتاً بعد وقت.

(17) أولو الألباب: أصحاب العقول.

(18) السقيفة: هي سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع المسلمون بعد وفاة الرسول ليتفاوضوا في شأن الخلافة.

(19) قرن معه: جَمعَ معه وضع إليه.

(20) مسجى بين ظهرانيهم: مُغطىَ لم يُدْفنْ بَعْدً.

(21) تئَدُِ الفتنة في مهدها: تدفنها وهي مازالت صغيرة.

(22) بَسَط يده: مَدَ يده.

(23) منارة: مرشداً للمسلمين وهادياً لهم.

(24) المعضلات: الأمور الى يصعب حلَّها.

(25) الجابية: قرية غربي دمشق اجتمع فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع الصحابة للتداول في شؤون الفتح وخطب فيها خطبته المشهورة فَسمي ذلك اليوم بيوم الجابية.

(26) وَقَرَ في صدره: استقر في صدره وثبت.

(27) انظر سيرته ص 179.

(28) ووري معه: دُفِن معه.

(29) الحبر: العالم المُتَبَحِّرُ في العلم.